ديماس

ديماس

لأن ديماس قد تركنى إذ أحب العالم الحاضر وذهب إلى تسالونيكى "2تى 4: 10

مقدمة

لعل من أطرف ما يروى أن واعظين مقتدرين صديقين وعظا فى مكان واحد، فى يوم أحد عظتين عجيبتين، ففى الصباح وعظ وليم روبرتسن عن « قوة الدين الجاذبة ».. وذكر أن فينا عنصراً إلهياً يستجيب لنداء اللّه، وأن عندنا استعداداً للحياة النبيلة السامية العالية، وأن هذا الاستعداد، قد تأتى عليه ساعة يكون مرهفاً قوياً جباراً، يتغلب على كل صعوبة، وكان من الأمثلة التى ذكرها، الإحساس الذى استولى على شارل الخامس الامبراطور، يوم هجر عرشه، وذهب يقبع فى أحد الأديرة، ينشد الهدوء والراحة والعزلة والتأمل والبحث عن اللّه، بعد أن ضاق بضجيج الحياة وشرورها وآثامها التى أحاطت به من كل جانب!!.. وبعد الظهر وعظ يوحنا ارسكن، عظة لا نعلم هل كان متفقاً عليها أم من محض الصدف العجيبة، ذكر فيها أن الإنسان فيه طبيعة ضد التدين، وأنه يمقت الحياة المقدسة والنبيلة وأكبر دليل على ذلك أن الدين ظهر فى المسيح فى كماله وجلاله ومجده، ومع ذلك فقد رفضه العالم وصلبه على هضبة الجلجثة!!... وفى الواقع إن الرجلين على حق، وكل منهما ينظر إلى الحقيقة من زاوية خاصة، وإنما هما الناموسان المتصارعان فى داخل النفس البشرية على ما صور الرسول بولس ببراعة فى الأصحاح السابع فى رسالة رومية!!.. والحقيقة نفسها تعد تجسيداً لقصة ديماس.. ومع أن القصة لا تعطينا أو توضح لنا مصير ديماس الأبدى، إلا أننا نأمل - ولو أنه حسب رنين القصة وإيحائها هو أمل ضعيف - أن يكون الرجل قد تاب وعاد إلى الإيمان ولو بعد تأديب الرب له، لكن القصة على أية حال تمثل فاجعة من بدأ حسناً لينتهى على صورة سيئة، ومن بدأ مجيداً، ليطمس الصفحة الناصعة، وقد كتبت انذاراً مخيفاً لكل منا، حتى لا نجاهد الجهاد الحسن فحسب، بل نكمل السعى وتحفظ الإيمان!!.. ولأجل ذلك أرجو أن ندرس قصة الرجل فيما يلى:

ديماس والبداءة الطيبة

نحن لا نعلم كيف أو متى تأثر ديماس بالمسيحية، إلى درجة أنه أصبح صديقاً لبولس وعاملا معه، ويشير إليه بولس كواحد من المتقدمين بين مساعديه فى رسالته إلى أهل كولوسى كما فى رسالته إلى فليمون،.. إلا أنه من المرجح أنه رأى المسيحية وهى تأخذ فى انتشارها العظيم، وتترك طابعها العميق فى حياة المؤمنين بها، وكيف تغير من حياتهم وتهبهم البهجة والسعادة والسلام والخير،.. قيل إن رجلا وثنياً اسمه مينانى وزوجته داكانا، كان لهما ولد متعب اسمه روموكا، وكان كثيراً ما يسرق أشياء صغيرة، وقد انزعج والداه لذلك كثيراً، فاستحضرا بعض التعاويذ ذات التأثير الكبير، ولكنها لم تفلح فى تحسين حال الولد، وسمع مينانى عن مدرسة الارسالية التى قال أصدقاؤه إنهم يتعلمون فيها القراءة والكتابة والحساب، وكان الرجل لا يعلم - وهو أمى - معنى هذه المدرسة، ولكنه قرر أن يرسل ابنه إلى هناك لعل المدرسة تفيده،.. وكان الأولاد يتعلمون كل صباح قصة من الكتاب المقدس، كما كانوا يتعلمون الكتابة على السبورة، وعرف الولد قصة الحب العجيب، وهو يكتب على السبورة « يسوع يحبنى »... وقد تحدثت القصص لا إلى عقله فحسب، بل إلى قلبه أيضاً، وفى ذات يوم وقد وقع تحت تبكيت الضمير صاح فى المدرسة: ألتمس أن تصلوا من أجلى، إنى أرغب أن أخلص من خطاياى!!، وجاء المسيح إلى روموكا وتغيرت حياته بالتمام. ولاحظ والداه التغيير الذى حدث له فقررا أن يرسلا ابنهما الثانى، وحدث مع هذا الابن ما حدث مع أخيه.. وفى أحد الأيام ذهبت الأم إلى معلم المدرسة وهى تقول: إننى أريد شيئاً من هذا الدواء، وأجاب المعلم أن الدواء فى صيدلية المستشفى، وقالت داكاناً كلا: إنى لا أريد دواء الصيدلية، ليس هذا هو مطلبى، إننى أطلب الدواء الذى غير روموكا وأخاه، لقد كان ابنى شريراً قاسياً عنيداً، ولكنه منذ جاء إليكم تغير وكذلك أخوه، ولذلك فاننى وزوجى نريد هذا الدواء». وحدث مع الزوجين ما حدث مع ولديهما وصارت العائلة كلها للمسيح!!.. بلغت حال الجندى فى المستشفى العسكرى درجة اليأس، وأرسل الطبيب إلى والده يطلب منه الحضور بعجلة، لخطورة حال ابنه،.. وجاء الأب، ورأى ابنه فيما يشبه الغيبوبة، واقترب الأب من ابنه، وقال يا ابنى لقد أحضرت لك رغيفاً من صنع والدتك فى البيت، وتحركت أجفان الشاب، وقال: هاته، وأكل، وصح، وعاش.. قد لا يوجد كثيرون يعيشون بعد أن يتناولوا خبز الأم، ولكن الملايين يحدثونك عن خبز الحياة الذى أخذوه فى شخص المسيح، وحيوا وعاشوا؟!!.. رأى ديماس الحياة تدب فى الأشرار والأثمة والخطاة والموتى،... فجاء إلى المسيح، وخدم مع بولس، وكانت كل المظاهر الأولى عجيبة ومشجعة،.. ولا يمكن بحال ما أن تكون الفترة الأولى من حياته مع بولس بعيدة عن الشجاعة والإخلاص والوفاء الذى نراه بوضوح وهو يرافق بولس فى سجنه الأول فى روما عندما كتب رسالة كولوسى ورسالة فليمون!!.. 

ديماس ومحبة العالم الغالبة

ومن المؤسف أن محبة ديماس للعالم، كما جاءت الكلمة فى الأصل لم تكن مجرد المحبة العاطفية التى قد تكون نزوة من النزوات فى ساعة الضعف لا تلبث أن تنتهى، بل هى المحبة القوية التى تصدر عن وعى وتفكير ثابت، أو فى لغة أخرى، إن قرار الرجل لم يكن وليد حركة انفعالية فجائية مباغتة، بل وليد فكرة طال اختمارها فى الذهن، ولم تلبث أن تحولت إلى قرار يتسم بالإصرار والتصميم الراسخ!!.. فما هى هذه المحبة التى يمكن أن تكون قد تسلطت على ذهنه إلى هذا الحد!!؟.. ربما نستطيع أن نفهمها إذا تأملنا المدلول الصحيح لكلمة العالم التى يعنيها الرسول هنا.

إن العالم لا يعنى هنا عالم الطبيعة الجميلة التى أودعها اللّه فى الكون من جبال شاهقة ووديان خصيبة، وشلالات وأنهار، وجداول مياه، وخضرة وأشجار، وأطيار، وحيوانات وبهائم،.. إن صاحب المزمور المائة والرابع وهو يتأمل هذا العالم العظيم، كان أكثر اقتراباً إلى اللّه وتعبداً له: « باركى يانفسى الرب. يارب إلهى قد عظمت جداً مجداً وجلالا لبست. اللابس النور كثوب الباسط السموات كشفة المسقف علاليه بالمياه الجاعل السحاب مركبته الماشى على أجنحة الريح، الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة، المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر.. المفجر عيوناً فى الأودية. بين الجبال تجرى، تسقى كل حيوان البر. تكسر الفراء ظمأها. فوقها طيور السماء تسكن. من بين الأغصان تسمع صوتاً.. حيث تعشش هناك العصافير. أما اللقلق فالسرو بيته الجبال العالية للوعول. الصخور ملجأ للوبار.. ما أعظم أعمالك يارب كلها بحكمة صنعت. ملآنة الأرض من غناك. هذا البحر الكبير الواسع الأطراف. هناك دبابات بلا عدد. صغار حيوان مع كبار.. يكون مجد الرب إلى الدهر. يفرح الرب بأعماله... إلخ ».. وكل واحد منا يمكن أمام عالم الطبيعة أن يصيح: أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك فى كل الأرض!!.. (مز 8: 1).

وأكثر من ذلك ليس المقصود « بالعالم الحاضر » هو عالم البشر لأنه: « هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ».. قال شاعر غربى:

هل تعلم أن العالم يحتضر

وهو فى حاجة إلى قليل من حب

وفى كل مكان نسمع نحيبه

أنا فى حاجة إلى قليل من حب

إلى الحب الذى يصحح الخطأ

ويملأ الكل بالرجاء والترنم

وقد تطلعت طويلا

إلى قليل من الحب

وبالتأكيد، ليس مطلوباً منا على الاطلاق أن نمتنع عن حب البشر،.. جاءت سيدة إلى أحد الرعاة، وقالت بقلب مكسور، إن بكرها قد مات طفلاً صغيراً، وهى تخشى أن تكون قد أحبته أكثر من اللازم ولأجل ذلك أخذه اللّه،.. وأجابها الراعى: أنت مخطئة ياسيدتى، فأنت لم تحبيه أكثر من اللازم، بل ربما أحببت اللّه أقل مما يجب،.. ومأساتنا الحقيقية فى حياتنا أجمعين أننا نحب أقل مما يجب!!..

وليس المقصود بالعالم الحاضر، عالم العبقرية والفن والاكتشاف والاختراع فكل ما يفيد الإنسان علمياً أو طبياً أو اجتماعياً، ويعطيه راحة أو فى لصحته وحياته وذهنه ونفسه،.. لا يمكن أن يكون هو العالم الحاضر الذى أحبه ديماس،.. حمل الأفريقيون الرجل الأسود الذى كان يمزقه الألم إلى ألبرت شويتزر، وأنامه الطبيب العظيم، وخدره، وأجرى له العملية، وأفاق الرجل من المخدر، وهو يتعجب أشد العجب للألم الذى انتهى، وإذ أخذ يشكر شويتزر قال له: لا تشكرنى.. أشكر من أرسلنى إليك، إنه يسوع المسيح مخلص العالم. وتعرف الأفريقى على المسيح، لأن اللّه لم يستخدم الطبيب فحسب، بل استخدم الوسائل الطبية التى أضحت نعمة اللّه للانسان المتألم فى هذه الأرض!!.. وخذ على هذا القياس شتى الميادين الأخرى والمكتشفات والمخترعات التى أفادت البشر من مختلف الوجوه، وأعطته من الخير ما لم يكن يحلم به على الإطلاق!!..

إذاً ما هو هذا العالم الذى يقصده بولس، والذى أحبه ديماس،.. إن هذا العالم هو الذى يصفه بولس بكلمة الحاضر، والحاضر تعنى على الأقل معنيين أساسيين: الملموس أو المنظور، فى مواجهة غير المنظور،.. والوقتى فى مواجهة الأبدى،.. فالعالم الحاضر هو عالم الحياة الحاضرة المنظورة التى يصرف الناس فيها قواهم، ويعيشون للجسد بكل ما فى الكلمة من معنى، دون أن تنفتح عيونهم على العالم الروحى غير المنظور،.. وهو العالم الذى يعرف مفاتن روما أو تجارة تسالونيكى، ولا يستطيع أن يمتد إلى ما هو أكثر، أو يخترق المنظور إلى غير المنظور،... وهو العالم الذى يبنى حياته وقصوره فى الأرض، مجداً فى بحثه عن التمتع الوقتى بالخطية دون نظر إلى الأبدية وعالم المستقبل العتيد!!... وحتى تتضح الصورة أمامنا، خليق بنا أن نتمشى مع خيال أحد الخدام، وهو يصور لنا ديماس وبولس يسيران معاً فى شوارع روما متجهين إلى مكان العبادة،... وبولس يدب بقدميه الثابتين، ووجهه المنطلق إلى الأمام دون تردد أو تلفت يمنة أو يسرة، إذ هو مشغول تماماً بفكرة العبادة التى هو ذاهب إليها ليلتقى هناك مع إخوته المتعبدين المؤمنين،.. ولكن ديماس كان على العكس زائغ البصر، على طول الطريق يتلفت هنا وهناك، على ما تقع عليه عيناه من روائع روما ومتاجرها ومبانيها العظيمة وقصورها الشاهقة،... وإذ يخرج الاثنان من المدينة يدلفان إلى المقابر التى تنزل بهم إلى ما تحت الأرض، حيث كانوا يتعبدون فى أيام الضيق،الاضطهاد حيث لم تسمح لهم روما بالعبادة الحرة الآمنة الهادئة،.. وقد انعكس هذا كله على نفس ديماس، الذى لم يكن له حظ التمتع بالمنظور الذى أغرق الرومان فيه أنفسهم، بل هو يعيش فى ظل الرعب والفزع من الاضطهاد الذى كان يلقى فيه بالمسيحيين إلى الموت حرقاً، حيث كانت تشعل فيهم روما النار وتعلقهم ليضيئوا ظلمانها القاسية الرهيبة، أو تتركهم للصراع مع الوحوش، وتصفق بأيديها وهم يلقون حتفهم هناك فى أبشع ما عرف العالم من عنف وقسوة واضطهاد!!.. أجل لقد أُخذ فى مطلع الأمر بجمال الحياة المسيحية، وعظمة النفوس النبيلة التى ارتفعت فوق مستوى الحياة العالمية، وشعت بنور لا يمكن أن يصدر عن العالم نظيره أو بديله!!.. ولكنه الآن يرى الصورة الأخرى،.. صورة التعب والمعاناة والألم والاضطهاد والموت!.. وهو أعجز من أن يفهم معنى هذا، ولا يستطيع وقد خمدت جذوة حماسته الداخلية، أن يبقى على هذا الوضع أو يستقر فيه،.. ومن ثم قر قراره على الذهاب إلى تسالونيكى، ربمالأنها بلدته، أو لأنها المكان الذى قرر أن يتاجر فيه، أو لأنها المكان الذى يبعد فيه عن روما حتى لا يكون فى متناول يد الإمبراطور الذى قد يسجنه كما سجن بولس، وأصبحت حياته لذلك فى خطر داهم!!..

قال أحدهم: إن لكل واحد منا بعيداً عن اللّه، « تسالونيكى » التى يتجه إليها ويسعى ويكد ويلقى فيها عصائر حاله،... فهناك « تسالونيكى المال » حيث يقال إن ديماس تحول عن الخدمة إلى التجارة فيها،.. وكم ضاع خدام للّه بدأوا بداية حسنة ولكن محبة المال ضيعتهم، وأغلتهم بأطواق من ذهب، ولم يستطيعوا أن يخدموا السيدين: اللّه والمال.. التقى أحدهم فى إحدى عربات الأتوبيس فى مدينة لندن بشاب كان يحمل شعار الامتناع عن المسكرات فسأله بنغمة ساخرة: كم كلفك هذا!!؟.. وأجاب الآخر: لا أعلم بالضبط لكنى أقول لك بالتقريب إنه يكلفنى كل سنة ما لا يقل عن عشرين ألفاً من الجنيهات،.. كان المتكلم هو فردريك شارنجتون ابن واحد من أكبر تجار البيرة والمشروبات الروحية، وقد انتهى به الأمر إلى رفض الثروة التى تأتى من هذا الجانب المفسد والمضيع للكثيرين ممن يتعاطون الخمور ويدمنون عليها،.. ولكن الكثيرين على العكس على استعداد أن يجعلوا تسالونيكى أمل حياتهم بكل ما فيها من ربح حرام، ومال دنس!!.. وهناك تسالونيكى « الشهرة » كمن باعوا أنفسهم للشيطان ليصبحوا نجوماً وكواكب لامعة فى السينما أو غيرها من ميادين الشهرة، وهم لا يتورعون عن ارتكاب أحط أنواع المباذل والمفاسد، طالما تصفق لهم الجماهير أو يهتف لهم البشر، أو تظهر أسماؤهم أو صورهم فى الصحف والمجلات والكتب!!.. وهم فى سبيل ذلك قد يهجرون الاسم الحسن الذى دعى عليهم فى بيوتهم وهم صغار وأطفال!!.. وهناك « تسالونيكى الشهوة » حيث يذهب ملايين الناس ليتساقطوا كما يتساقط الفراش المحترق، وهو يسعى إلى النار، وأغنيتهم: «اليوم خمر وغداً أمر»، وهم مندفعون بجنون كامل إلى المباذل والمفاسد والشرور دون ورع أو تعقل أو اهتمام بالمصير الذى إليه ينتهون.. وهناك، « تسالونيكى العلم » وهى عند الكثيرين المعبد الذى يتعبدون فيه دون اللّه،.. فهم يصرفون حياتهم بأكملها، فى دروب ومتاهات الفلسفة والاختراع والاكتشاف، دون أن يرفعوا رؤوسهم إلى « المعلم » الحقيقى والسيد الذى يعطى الحكمة الحقيقية والمعرفة الصحيحة على هذه الأرض!!.. ومهما تكن المظاهر المختلفة «لتسالونيكى» عند البشر، إلا أنها القصة القديمة: «تركنى لأنه أحب العالم الحاضر».. 

ديماس ومصيره

ليس من السهل أن نتحدث عن مصير ديماس الأبدى، كما أسلفنا سابقاً، إذ أن المصير بين يدى اللّه، ولكنه من الممكن مع ذلك أن نتحدث عن أى إنسان يمكن أن يقال عنه: «تركنى إذ أحب العالم الحاضر»... وهل يمكن أن تعطيه تسالونيكى ما كان يحلم به أو يتخيله أو يتصوره، لندع أحد رجال اللّه يتخيل هذه الصورة،.. لقد تعقب هذا الرجل ديماس فى مدينة تسالونيكى، وقد مارس التجارة وأثرى منها، ثراء فاحشاً، فبنى لنفسه قصراً عظيماً، وأصبح من وجهاء المدينة، وقد دعا ذات مساء أكابر القوم، وصنع لهم وليمة فاخرة حافلة بالأطايب والمشروبات، وظلوا فى سهرتهم بين النغم والطرب ثم تفرقوا فى آخر الليل، ولم يبق أحد مع ديماس سوى صديق تعرف عليه وكان بين المدعوين، وقد لاحظ هذا الصديق علامات الحزن واليأس على وجه ديماس، والضحك المصطنع الذى كان يلتزم به وهو يحيى ضيوفه ومدعويه، فسأله: ماذا بك من ألم أو تعب، وأنت لا يعوزك شئ البتة، وضحك ديماس بمرارة وهو يقول: فى الحقيقة يا أخى إنى لا أعرف قط طعم السعادة أو مذاقها رغم كل ما تراه من أسباب الترف والنعيم!!.. وقال الآخر: أنا أستطيع أن أدلِّك على رجل، موجود الآن فى مدينة روما، وهو وحده الذى يستطيع أن يعطيك نبعاً لا ينقطع من السعادة، ويكفى أن تعلم أنه وهو سجين، هو أسعد الناس على ظهر هذه الأرض، واسمه بولس!!.. بولس الرسول!!.. بوغت ديماس وصاح: هل تعرف الرجل!!؟.. فأجابه نعم!!.. فقال له: وأنا أيضاً أعرفه،.. وأؤكد لك: أن الفترة التى قضيتها مع الرجل هى الواحة الوحيدة التى عرفتها فى صحراء حياتى!!.. كان ديماس يظن أنه سيجد فى تسالونيكى كل سعادة وبهجة وعزاء وراحة، ولكنه على العكس وجد السراب فى كل شئ!!.. وإلى اليوم سيجد كل « ديماس » نفس المصير وهو يولى ظهره لبولس ولمسيح بولس، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله (وليس تسالونيكى فقط) وخسر نفسه. أو «ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه»!! (مت 16: 26).

على أن مصير ديماس يمكن أن نراه من وجهة أخرى، كان الفرق بينه وبين بولس، هو الفرق بين الأخذ والعطاء. كان ديماس يريد أن يأخذ ثروة ومالاً وجاهاً وقصراً ومتعاً، وجرد بولس نفسه اختياراً من كل هذه، وهو يعيش فى زنزانته، وأوشك الشتاء أن يجئ، وهو لا يجد ثوباً يغطى به جسده المقرور، بعد أن ترك رداءه فى ترواس وهو يدعو تيموثاوس أن يسرع إليه، ويحمل معه الرداء والكتب ولا سيما الرقوق،.. فى قصة عن فتاة رائعة الجمال اسمها بورتيا وضع أبوها امتحاناً لمن يتقدم ليخطبها ويتزوجها، إذ وضع ثلاث قبعات، وفى واحدة منها صورتها،.. القبعة الأولى مصنوعة من الذهب، وداخلها شعار يقول: « من يختارنى سيصل إلى ما يطلبه الكثيرون من الناس »... والقبعة الثانية من فضة، وقد كتب داخلها: « ومن يختارنى سيحصل على ما يستحق ».. وكانت الثالثة من قصدير وفيها صورتها وإلى جانبها: « من يختارنى يلزم أن يعطى ويجازف بكل شئ ». كان ديماس يبحث عن الأخذ، وبولس يجازف بالعطاء،.. ونحن نعلم من الذى كسب، ومن الذى ضاع، والحياة «لا يمكن» أن تقدم لمن يعيشون لنفوسهم، ولا يفكرون إلا فى الحصول على مشتهياتهم أو متعهم، ولكنها تعطى عطايا عظيمة جليلة كريمة لمن يبذل ويقدم للآخرين لمجد اللّه!!..

فإذا عدنا إلى الأمر من زاوية ثالثة، حيث نرى السجين العظيم القديم يتلفت حوله يمنة ويسرة ليرى المخلص والمحب والأمين والغادر والشرير!!.. ويرى واحداً يدير ظهره له فى أدق اللحظات وأقساها ضيقاً ومشقة ومرارة، ولعله كتب والدموع فى عينيه: « ديماس تركنى »... ألست تحس معى أنها طعنة خنجر أقسى من ذلك الخنجر الذى أبصره يوليوس قيصر فى يد بروتس فصاح صارخاً: « حتى أنت يابروتس!!..).. وذهبت العبارة فى كل الأجيال تعبيراً محزناً عن الغدر والخيانة.. وهل يمكن للإنسان الذى يتخلى عن صديقه أو حبيبه فى أدق الظروف وأشد الأوقات أن يجد سلاماً أو راحة أو خيراً،... كلا!! وإلى الأبد كلا!!.. ومهما تحرر ديماس من هذا الالتزام أو ذلك، فإنه لا يمكن أن يتحرر قط من عذاب الضمير الذى سيلاحقه إلى آخر العمر، وهو يترك بولس يواجه الجلاد، وهو يهرب بعيداً عنه عبر المسافات الشاسعة بين تسالونيكى وروما!!.. مسكين ديماس، مسكين الرجل الذى فقد فى هروبه شهامة الرجال، وعظمة الأبطال، وضاعت منه الفرصة الخالدة التى لو أحسن انتهازها لما لحقه العار الخالد إلى الأبد!!..

على أنه مهما يكن هذا كله يتحدث عن البشاعة والرهبة إلى أبعد حدودها، فإن أبشع ما فى القصة ارتداد ديماس عن الخدمة المقدسة، التى سار خطاها الأولى، وقطع فيها شوطاً بعيداً، لم يستطع أن يسلك فيه للنهاية!!.. ماذا حدث له بعد ذلك!!؟ وكيف عاش بقية حياته!!.. وهل جاءه التأديب من الرب، فعاد إلى الخدمة مرة أخرى؟ أم استمر فى غيه وضلاله وضياعه فضاع إلى الأبد!!؟. نحن نعلم باليقين أن بولس الذى غضب على يوحنا مرقس، عاد فحياه لعودته مرة إلى طريق الخدمة التى تنكب عنها!!. هل فعل ديماس شيئاً من هذا القبيل، حتى ولو لم يأت ذكره فى سفر من أسفار الوحى المقدس!!.. لا نعلم!!... وكم نتمنى لو أنه كان قد عاد!!.. وإن كان الإيماء الذى تتركه لنا القصة لا يشجع على ذلك،.. ومن المظنون أنه وقد تخلى فى الوقت الدقيق عن الخدمة مغلوبا من العالم الحاضر الشرير، فإنه ذهب لينال مصيره التعس بعد أن تعلق بتراب تسالونيكى أو بالحرى بسرابها. وجاء فى بعض التقاليد التى لا نجد لها سنداً لتقول إنه أصبح كاهناً وثنياً يعبد الأصنام،.. أما نحن فأضعف وأعجز من أن نحكم الحكم النهائى ولا نملك أكثر من قول بولس: «لأن ديماس قد تركنى إذ أحب العالم الحاضر»..!!. 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بدعة كيرينثوس

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

أسئلة عن تلاميذ السيد المسيح