عظة بعنوان (طريق الكمال المسيحى)بقلم: العلاًمة المتنيح نيافة الأنبا غريغوريوس

عظة بعنوان (طريق الكمال المسيحى)
بقلم: العلاًمة المتنيح نيافة الأنبا غريغوريوس

من عظة  بكنيسة الملاك ميخائيل بجرجا فى صباح الأحد 30 نوفمبر 1975 م - 20 هاتور 1692 م

بسم الله القوى الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين

1- شرف التلمذة وطريق الكمال:
الإنجيل الذى تُلى علينا الآن، مأخوذ من الأصحاح الرابع عشر من إنجيل معلمنا لوقا البشير، إبتداءً من العدد الخامس والعشرين إلى العدد الخامس والثلاثين، وفيه يقول مخلصنا:  "إن كان أحد يأتى إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وإمرأته وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضا، لا يقدر أن يكون لى تلميذاً، ومن لا يحمل صليبه ويأتى ورائى، فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً"

ما أعظم شرف التلمذة، التى هى طريق الترقى، وطريق التعليم وطريق الاكتساب للمعرفة وللخبرات. جعلها المسيح شرفاً وجعلها مكافأة وجزاءً وغاية. إن كان أحد يأتى ورائى، إن كان أحد يتبعنى، ولا يبغض أباه وأمه وإمرأته وإخوته وأخواته حتى نفسه، لا يقدر أن يكون لى تلميذاً. جاعلاً التلمذة غاية وهدفاً ونهاية، وهذا الشرف أضافه المسيح له المجد على التلمذة. الإنسان الذى لا يتتلمذ لمستويات أعلى من مستواه، خيراً له أن لا يكون إنساناً جديراً بلقب إنسان، لأن الإنسان خلق بحيث يمكن أن يترقى ويأخذ مكانة جديدة أسمى، عن طريق التعلم وعن طريق التتلمذ، وهذا هو الفرق بين ولد صغير تلميذ فى المرحلة الإبتدائية، وبين تلميذ ترقى إلى المرحلة الثانوية، فالعالية، حتى بعد أن يحصل على أرقى الشهادات، يكون أمامه طريقاً طويلاً لهذه التلمذة، يتتلمذ على علماء وعلى أُناس ذوى خبرة، ويظل تلميذاً حتى لو بلغ الثمانين أو التسعين أو المائة من عمره، إن إنساناً يسير فى هذا الطريق الصعب، هو الجدير بأن يكون الإنسان الذى خُلق على صورة الله ومثاله، فإن من يرفض المعرفة ومن يرفض اكتساب المعرفة، فقد رفض أن ينمو ورفض أن يزيد، وهذه كارثة فى حياة بعض الناس، الذين يرفضون العلم ويرفضون المعرفة، ويرفضون اكتساب الخبرات الجديدة، لابد للإنسان الراقى أن يكون عنده إحساساً أن هناك مستوى أرفع من مستواه، وهناك رغبة منه أن يرتقى إلى هذا المستوى الأرقى من مستواه، فى المعرفة العقلية وفى المعرفة الروحية، وفى مجال الإيمان، ومثلنا الأعلى والمعلّم الأوحد، الذى ينبغى أن يأخذ الإنسان منه دائماً، ولا يتوقف عن الأخذ منه هو السيد المسيح، لأنه المعلّم الكامل، ولديه خزائن المعرفة التى فيها كل كنوز المعرفة كما يقول الرسول، ولهذه المعرفة طولاً وعرضاً وعمقاً. والإنسان المسيحى التقى السائر فى طريق السماء، يدخل فى هذا الطريق الطويل، دخولاً خطوة بعد خطوة، خطوة أرقى من خطوة، وأرفع من خطوة، ولن ينتهى المثل الأعلى، بل سيظل الكمال المطلوب أمام المسيحى، كمالاً يجرى أمامه ولا يستطيع اللحاق به، وكلما جرى وراء مثل هذا الكمال، انفتح أمامه طريقاً جديداً فى نفس طريق الكمال، وانكشفت له أمور جديدة أخرى لم يكن يعرفها من قبل، أقسام أخرى وحلقات أخرى، ومراحل أخرى من مراحل الكمال، تنكشف الواحدة منها بعد الأخرى، ويبقى مع ذلك فرق بين الكمال الذى يصل إليه الروحانيون، وبين الكمال الذى فى المسيح، لكننا مطالبون بأن نصل إلى الكمال الذى فى المسيح، لأنه يقول: "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل" كمال الآب السماوى هو مثلنا الأعلى، نظل نطارد هذا الكمال ونجرى وراءه فى خط صاعد، خطوة خطوة ومرحلة بعد مرحلة، وقد نحصل على شىء، والروحانيون يجاهدون، وفى جهادهم يحققون نوع من السمو الروحانى، الذى يرفعهم فوق مستواهم الأول، وهكذا يظل الطريق صاعداً، ويصعدوا سلم الفضائل درجة أعلى من درجة، حتى يبلغوا إلى مرحلة عالية، لكن أمامهم ما يسميه الرسول قياس قامة ملء المسيح (أفسس 4 : 14)، هذا هو النموذج الأعلى، وهذا هو النموذج المرتقب.

المسيح له المجد فى هذا الفصل، يدعونا ويلفت نظرنا إلى هذا النوع من التلمذة المستمرة، وإلى محاولة اللحاق بالمعلم الأكبر، كنموذج أعلى نتبعه فى الطريق، لعلنا نبلغ إلى الطول والعرض والعمق، ولعلنا نبلغ أخيراً إلى ملء قامة المسيح، "إن كان أحد يريد أن يتبعنى"، يريد أن يسير ورائى، يريد أن يكون فى أثر خطواتى، يريد أن يتخذنى رائداً له وقائداً لحياته ومعلماً لسيرته "إن كان أحد يريد" الطريق مفتوح، أنا لا أفرض إرادتى على أحد "إن كان أحد يريد" إنى أحترم حرية الناس، لا جبراً ولا كرهاً ولا قصراً ..

2- المحبة التى تعوق الإنسان عن طريق الله: 
"إن كان أحد يريد" أن يتخذنى رائداً، وأن يتخذنى قائداً وأن يتخذنى معلماً، وأن يتخذنى نموذج أعلى "إن لم يبغض أباه وأمه وإمرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه لا يقدر أن يكون لى تلميذاً " 
عجبا يا إلهى.. أ أنت الذى تقول هذا !! 

أنت الحب بعينه.. ومعلّم الحب، كيف تتكلم عن البغض، وكيف تشترط البغض والكره كشرط لمن يتبعك؟ كيف هذا؟ لم نعهد فيك يارب هذا أبداً، ألم تقل: " بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى، إذا كان لكم حب بعضكم لبعض " كيف تطالبنا الآن وتشترط إن كان أحد لا يبغض أباه وأمه وإمرأته وأولاده، وإخوته وأخواته حتى نفسه، لا يقدر أن يكون لى تلميـذاً، يا أولادى أريدكم أن تفهموا وأن تميزوا الأمور المتخالفة. أنا أريدكم أن تحبوا الله الآب، وأريدكم أيضا أن تحبوا بعضكم بعضا، ولكنى أريد أن أنبهكم إلى الفرق الكبير الواسع، الذى ينبغى أن يكون، بين محبتكم للآب السماوى، ومحبتكم لبعضكم البعض، لأنه فى بعض الأحيان، محبتكم بعضكم لبعض تتعارض مع محبتكم للآب السماوى. هناك محبه بين البشر جاهلة، محبة غبية، محبة جسدية، لا معنوية ولا روحية، محبة يترتب عليها أن يخالف الإنسان أمر الله، أحياناً الأب أو الأم فى سبيل محبتهم لأولادهم، يفصلوهم عن الله، ألا يحدث أن الأب والأم يقولا لإبنهما، لا تضّيع وقتك وتذهب إلى الكنيسة، أنت محتاج لهذا الوقت، بل أحياناً أن الأب والأم بأنفسهما يقصرا فى واجباتهما نحو الله، وعندما تسأل أحدهما يقول: مشغول، مشغول، الأولاد، الأولاد، الحجة والتبرير الذى يعتذر بهما الرجل، وقد تعتذر به المرأة عن محبة الله، وعن الصلاة وعن العبادة، وعن المجىء للكنيسة، وعن الاعتراف والتناول، وعن كل الممارسات والعبادات، وعن مبادىء الإنجيل، واحترام الفضيلة بالمشغوليات. هناك محبة بشرية رديئة، ومعطلة تضر الشخص وتضر الأشخاص الذين نحبهم، لأنها ليست محبة معنوية مثالية نموذجية روحانية، بل هى محبة جسدية، قد يتعلق الرجل بإمرأة، وقد تتعلق المرأة برجل فى غير نطاق مبادىء الإنجيل، تعلقاً وعشقاً جسدياً، وهذا التعلق والعشق يفصل كل منهما عن الله، ويكون هذا الحب سبباً لإنفصال هذا الإنسان، وهذه الإنسانة عن الله، وقد تسبب لهم الخطيئة والفساد الضرر بمستقبلهما الأبدى، ومصيرهما الأبدى. إذن هناك محبة جسدية تعوق الإنسان عن طريق الله.

هذه المحبة ساقطة. هذه المحبة هى التى قصدها السيد المسيح بقوله: " إن كان أحد لا يبغض أباه وأمه وإمرأته، وأولاده وإخوته وأخواته، لا يقدر أن يكون لى تلميذاً"، لأن هذه المحبة تتعارض مع محبتهم للآب السماوى، وأنا أريدكم يا أولادى إن أردتم أن تسيروا فى طريقى، أن تكون محبتكم للآب السماوى، أعظم من محبتكم لبعضكم بعض. "إن كان أحد يحب أباه أو أمه أكثر منى فلا يستحقنى" إن كان أحد يحب إبنه أو إبنته أكثر منى فلا يستحقنى. ليست هذه أنانية منى ولكن هذا لخيركم أنتم، أن تكون رابطتكم بربكم رابطة مقدسة، ومحبتكم للآب السماوى أكثر من محبتكم للأب والأم والابن والابنه. لأنكم بهذا تبرهنون على أنكم متعمقون بالواحد الأحد، وعلى أنكم لا تشغلون بمحبة أخرى، تفصلكم عن محبة الواحد الأحد. إن كانت محبتكم لبعضكم البعض، تتعارض مع محبة الآب السماوى، فينبغى أن تكونوا مستعدين أن تضحوا بهذه المحبة الجسدية، فى سبيل محبة الآب السماوى. إن كنتم تريدون أن تكونوا مستحقين، لمحبة الآب السماوى، لأنه فى بعض الأحيان تتعارض محبتكم لبعضكم البعض، مع محبتكم لله، لأن هذه المحبة الجسدية قد تقودكم إلى أخطاء. قد تعوقكم عن طريق الفضيلة، قد تؤذيكم فى مصيركم الأبدى، فى سبيل هذه التعلق الجسدى.

من جهة أخرى يا أولادى إذا أحببتمونى أنا أولاً، ستحبون بعضكم بعضاً. إنما الفرق هنا أنكم بعد أن تحبونى، تحبون بعضكم بعضاً، ستكون محبتكم بعضكم لبعض من خلال محبتى، وحينئذ تحبون بعضكم بعضاً على أساس من المبادىء السليمة. أنا أريدكم أن تحبوا بعضكم بعضاً، ولا أريد أن تكرهوا بعضكم بعضاً، فأنتم جميعا أولادى ولكنكم أن تحبوا الله أولاً، ومن خلال محبتكم لله تحبون بعضكم بعضاً. هذا يصنع فارقاً ضخماً. تكون محبتكم بعضكم لبعض فى هذه الحالة محبة سليمة. ومحبة على أساس من مبادىء الطهارة، ولا تكون محبة شيطانية جسدانية، أرضية شهوانية. إنما محبة من خلال محبتكم لله، اتجهوا إلى الله أولاً، ومن خلال الله تحبون الناس. لكن العكس ليس صحيحاً. العكس يضركم، هذا هو معنى "إن كان أحد لا يبغض أباه وأمه" ينبغى أن تكون محبتكم بعضكم لبعض بالنسبة لمحبتى، كالفرق بين البغضة والحب، ثم فى الوقت الذى فيه تتعارض محبتكم بعضكم لبعض، مع محبتكم لله. ينبغى أن تكونوا مستعدين أن تضحوا بعلاقاتكم بعضكم البعض، فى سبيل علاقتكم بالآب السماوى.

3-  التعارض بين محبة الله ومحبة الآخرين:
هناك مواقف يحدث فيها هذا التعارض. عندما يحدث أحيانا أن إنسان يخرج للخدمة ويعطى حياته للمسيح، تحدث حرب فى البيت أبوه يصرخ وأمه تبكى، تحدث اجتماعات ومحاولات لكى يثنوه عن هدفه، ويبعدوه عن طريق الخدمة المقدسة، وهذا عن محبة. الأب عندما يمنع ابنه، والأم عندما تمنع بنتها أيضا عن محبة، لكنها محبة أرضية شهوانية جسدية، ليست محبة إلهية، لأنهم لو كانوا يحبوا الله لكانوا يفرحوا، أن إبنهم سار فى طريق الله، وسيصبح خادم لله، من النادر جدا أن نجد أب يفرح عندما يجد ابنه صار خادماً لله. نادر جدا عندما نسمع أن أم تتمنى أن إبنها يكون خادم لله، باستمرار معظم الناس يكونوا ضد أولادهم، عندما يتجه تفكير الأولاد إلى خدمة الله. هذه المحبة جاهلة ومحبة غبية جسدانية، ولذلك فإن هذا الشاب إذا أحس، أن هذه الدعوة دعوة مقدسة إلهية، هنا ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس، وفى هذه الحالة ينبغى أن يبغض أباه وأمه، بمعنى أنه لا يوافق ولا ينثنى ولا يميل أمام محبة الأب والأم الغبية. وإنما محبته لربه وسيده، ينبغى أن تزيد على محبته لأبيه وأمه، ولو أدى الأمر أن يقطع علاقته بالأب والأم، كما قطع الأباء الرسل علاقتهم بأقربائهم.

4- العثرة والبغضة 
من عظة بكنيسة مارمرقس بكليفلاند (أوهايو)  الولايات المتحدة الأمريكية يوم الأحد 29 نوفمبر 1981 م - 20 هاتور 1698 ش

هذا هو معنى قول المسيح له المجد "من يأتى إلىّ ولا يبغض أباه وأمه، وزوجته وابناءه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضاً، لا يستطيع أن يكون لى تلميذا"، أحقا قصد المسيح من هذا الكلام أن يعلمنا أن نبغض الناس؟ حاشا، فالمسيح الذى عَلّمنا أن الله محبة، والذى قال "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى إن كان لكم حب بعضكم لبعض"، فكيف نراه هنا يُعلّمنا شيئا آخر، يبدو متعارضاً مع تعليمه عن المحبة "من يأتى إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وزوجته وابناءه، وإخوته وأخواته بل نفسه أيضا، لا يستطيع أن يكون لى تلميذاً " 

المعنى هنا أنه إن وقف أحد من الناس فى طريقنا، معطلاً لنا عن الخلاص الذى هو أسمى من كل شىء، فنحن ننحى هذا الإنسان عن طريقنا، حتى لو كانت علاقته بنا علاقة وثيقة، وهذا دليل محبتنا لله. "من أحب أباً أو أماً أكثر منى فلا يستحقنى" هكذا قال المسيح، "من أحب ابنا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقنى" ليس هذا معناه أن المسيح كان أنانياً، أو أنه يريدنا أن نحبه وحده ولا نحب الآخرين، حاشا، إنما من أجلنا ومن أجل خيرنا، يُعلّمنا أن لا يتعلق القلب بشىء آخر يتحول إلى إله، وبهذا يكون الإنسان عابداً للأوثان، أو يعبد إلهاً آخر، والوصية الأولى تقول "لا يكن لك آلهة أخرى أمامى"، فى بعض الأحيان يتعلق الإنسان بإنسان آخر تعلقاً يفصله عن الله، ويسبب له هلاكاً أبدياً، يكون هذا الإنسان القريب أو الصديق، عثرة فى طريق خلاصه، فيسبب له هلاكاً أبدياً، والكتاب المقدس يقول: المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة، ويقول المسيح فى موضع آخر: "إن أعثرتك عينك فاقلعها والقها عنك، لأنه خير لك أن تدخل الحياة بعين واحدة، من أن تدخل إلى جهنم ولك عينان، إن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها والقها عنك، لأنه خير لك أن تدخل الحياة أقطع من اليد أو الرجل، من أن تدخل إلى جهنم ولك رجلان أو يدان" 

ليس المعنى من هذا أن نقلع العين، كما فعل سمعان الخراز خطأ، فهو إنسان بسيط، ظن خطأ أن هذا هو المقصود من كلام الإنجيل، وليس معناه أن نقطع اليد أو الرجل، فليس مصدر الخطيئة اليد أو الرجل، إنما كما قال المسيح: من القلب تصدر الأفكار الشريرة، ولو كان هذا المنطق صحيحاً، لكان الأعمى بلا خطيئة، ولكان المقعد بلا خطيئة، ولكان الذى قطعت يداه أو رجلاه بلا خطيئة، ليس هذا هو المنطق المطلوب من الإنجيل، ليس المقصود أن يقلع الإنسان عينه هذه، فليس الذى يُخَلّص الإنسان من الخطيئة، قلع العين أو إغلاقها ولا قطع اليد أو الرجل، لأن مصدر الشر هو القلب "فوق كل تَحفُظ  تحَفَظ قلبك لأن منه مخارج الحياة"، إنما إن كان لك إنسان عزيز عليك بمثابة العين، إن كان لك قريب أو صديق تعتمد عليه بمثابة اليد أو الرجل، ويكون هذا الصديق أو القريب عثرة لك، فى سبيل خلاصك الأبدى، أو أن يكون معطلاً لك عن طريق السماء، اقطع علاقتك بشجاعة عن هذا الإنسان، الذى يعطلك عن الحياة الأبدية، كن شجاعاً، اقطع علاقتك بهذا الإنسان، ارفع العثرة من طريقك، حتى تسير حسناً فى طريق السماء فتنال الحياة الأبدية... هذا هو المقصود من قوله له المجد: "من يأتى إلىّ ولا يبغض أباه " ليست هذه البغضة كمبدأ عام، إنما إن كان الأب أو الأم، إن كان الأخ أو الأخت، إن كانت الزوجة إن كان الأولاد، بل إن كانت النفس أيضا، إن كانت شهواتك ورغباتك، إن كانت عاداتك الرديئة التى أنت متعلق بها، تكون سبب هلاكك الأبدى، ينبغى أن تقطعها وأن تتركها وأن تبغضها من قلبك "كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير" هكذا يقول الكتاب المقدس ..

هذه هى الكراهة المطلوبة، هذه هى البغضة المطلوبة، التى لا تتعارض مع مبدأ الحب، نحن أوصانا المسيح أن نحب أعداءنا، لكن من جهة الشيطان قال "قاوموه راسخين فى الإيمان" فكل إنسان يعثرك قريبا كان أم صديقا، بل إن كانت نفسك ذاتها، إن كانت رغباتك إن كانت ميولك، إن كانت شهواتك، إن كانت مصالحك ومطامعك تقف عثرة، فى سبيل خلاصك، فينبغى أن تكون من الشجاعة، بحيث أن تبغضها وتنحيها وتقصيها، لأنها عثرة فى طريق خلاصك الأبدى، لأنك أنت متعلق بإله واحد، نعم هناك أشخاص يحبون أولادهم كأنهم آلهة، هناك أشخاص يحبون أشخاصاً آخرين كآلهة، أليس يحدث أحيانا أن شاباً يتعلق بفتاة، وربما بسببها يترك مسيحه، ويترك دينه، ويترك إيمانه، أو شابة بسبب تعلقها بشاب تترك المسيح، وتترك الدين، وتترك علاقتها بالكنيسة لأنها أحبت ذلك الشاب، فمحبتها له زادت على محبتها للمسيح، هل تصلح هذه الشابة، هل يصلح ذلك الشاب أن يكون حقا سائرا فى طريق السماء؟ هل حقا ذاك الشاب أو تلك الشابة يعبدان الله، إن عبادتهما للجسد، عبادتهما للشهوة زادت على محبتهما لله، هؤلاء لا يعبدون الله، هؤلاء يعبدون أجسادهم، ويعبدون رغباتهم ونزواتهم.. هذا هو المعنى من قول الإنجيل من يأتى إلىّ، يزعم أنه جاء إلىّ، يزعم أنه من أتباعى، يدخل فى حظيرتى، وبعد ذلك يتعلق قلبه بإنسان قريباً كان أو صديقاً، يتعلق قلبه بهذا الإنسان، بدرجة أنه يعبده ويرضيه أكثر مما يرضى الله، يعمل على إرضائه أكثر مما يعمل على إرضاء الله، هذا عابد وثن، حتى لو كان يزعم أنه يعبد الله. هذا معناه أننا إن كنا نسير أيها الأبناء، فى طريق الله، فعقولنا شاخصة فيه، وقلوبنا متجهة إليه، وأرواحنا متعلقة به وحده، ما أعظم قول أحد الحكماء من القديسين "كن عبداً خاصاً لسيد واحد ولا تتعبد لكثيرين" 

ومن هو هذا السيد الواحد؟ 
قال المسيح لتلاميذه "إن سيدكم واحد هو المسيح" لا يسودنا إنسان آخر بدرجة تتعارض، مع سيادة المسيح على حياتنا، لا نتعلق بآخرين، قال المسيح "لا تقدرون أن تعبدوا سيدين، لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال، لأنه إما أن يحب الواحد ويبغض الآخر"، لا يمكن للقلب أن يتعبد لسيدين، لابد أن يكون القلب متعبداً لواحد فقط، لكن هذا لا يتعارض مع إحترامنا للناس ومع إحترامنا لكل واحد، قال الكتاب المقدس "اعطوا الجميع حقوقهم الإكرام لمن له الإكرام" أكرم أخى، وأكرم أبى، وأكرم الرئيس، ولكن سيدى الأعظم هو الذى أحبه أكثر مما أحب أى إنسان آخر، بحيث أنه لو تعارضت علاقتى بالناس، مع علاقتى بالله، ففى هذه الحالة أكون مستعداً، لأن أضحى بعلاقتى بالآخرين من أجل سيدى لأنه السيد الواحد، سيدكم واحد هو المسيح، هكذا صنع القديسون، هكذا صنع الشهداء فى كل العصور، تعلقت قلوبهم بواحد، فإذا تعارضت محبتهم لهذا الواحد، إذا تعارض إحترامهم للرؤساء وللملوك وللحكام، إذا تعارضت علاقتهم مع أى إنسان، فى أى منصب، مع عبادة الله ومع محبتهم لله، فهم من أجل الله يبيعون كل شىء، لأن هناك لؤلؤة واحدة ثمينة، التاجر الحكيم يبيع كل ما يملك، فى سبيل أن يشترى هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن، واللؤلؤة الكثيرة الثمن هى الحياة الأبدية والخلاص الأبدى..

5- ما معنى بغضة النفس؟: 
من عظة بكنيسة مارمينا العجائبى بفم الخليج  (مصر القديمة)  فى صباح الأحد 28 نوفمبر 1982 م - 19 هاتور 1699 ش

لكن هناك صعوبة أخرى فى هذا النص، "من يأتى إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وزوجته وأبناءه وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضا لا يستطيع أن يكون لى تلميذاً"، ما معنى أن يبغض الإنسان نفسه؟ وكيف يعتبر بغضة الإنسان لنفسه فضيلة، وشرطاً يشترطه المسيح لهذه التبعية العظيمة، تبعيتنا للمسيح، لا يبغض الإنسان نفسه بمعنى أن يكرهها، كما يحدث فى بعض الأحيان، أن يكره الإنسان نفسه، أحياناً ينتحر كرهاً لنفسه وتخلصاً من الحياة.. ما معنى أن يبغض الإنسان نفسه؟ معناه أن هناك مواقف، يقتضى أن يكون الإنسان ضد نفسه، نفسه ترغب فى شىء، وليست النفس العالية وإنما النفس الشهوانية هى التى ترغب فى هذا الشىء، تريده، ولكن هذه الرغبة شريرة أو تؤدى إلى الهلاك الأبدى، فمعنى أن يبغض الإنسان نفسه، لا أن ينتحر فهذه خطيئة، إنما معناه أن يأتى ضد نفسه أى ضد ميوله، ضد رغباته، وضد شهواته، وضد نزواته، وضد عاداته التى تعلق بها، وما لم يأت الإنسان ضد نفسه  فى مثل هذه المواقف، فلا يصلح لملكوت الله.. 

ألا توجد عادات رديئة يرتبط بها الإنسان ؟
خذ مثلا عادة التدخين المنتشرة بين الناس اليوم، أكثر من أى وقت مضى فى التاريخ ..
اتضحت مضار هذا التدخين على الإنسان نفسه، أنا أتعجب أن الناس يعملوا إعلانات عن التدخين كبيرة جداً وتحتها جملة كبيرة جداً (التدخين ضار جدا بالصحة) لا أعرف ما معنى هذا التعارض، كيف أنت تعلن إعلان وتدعو الناس إلى التدخين، وفى الوقت نفسه مكتوب (التدخين ضار جداً بالصحة)، وهذا الكلام اليوم فى كل بلاد العالم، يكتب على علبة السجائر (التدخين ضار بالصحة، أو التدخين يدمر صحتك) باللغات الأجنبية، وهو فعلا يدمر العينين، ويدمر الأذنين، ويدمر الزور، والجيوب الأنفية، والصدر، والقلب، والأمعاء، والمعدة، والجهاز البولى، والجهاز التناسلى ويؤثر على البذور التى يعطيها الرجل، لإبنه أو إبنته ويكون أساس للتخلف  العقلى، والتخلف الصحى، وضعف المناعة للأطفال وسبب للأمراض، وهكذا الأم المدخنة، أضرارها للجنين الذى فى بطنها، أضرار كثيرة جدا، والأم المرضع التى ترضع اللبن لطفلها، إذا كانت مدخنة فأضرار كثيرة تلحق بالطفل الرضيع، نتيجة التدخين والذى يدخل إلى الدم، وبالتالى إلى اللبن الذى تقدمه المرأة لوليدها، اليوم أكثر مـن أى وقت مضى، اتضحت مسئولية هذا التدخين عن السرطان بأنواعه المختلفة، اتضحت مضاره على طول عمر الإنسان، أنه يُقَصّر عمر الإنسان هذا إذا لم تحدث له ذبحة صدرية، أو جلطة، حتى إذا طالت حياته، لكن هذه الحياة لابد أن تقصر، بفعل هذه الأشياء المدمرة، والحكيم سليمان يقول: "لا تكن شريراً كثيراً، لا تكن جاهلاً كثيراً، لماذا تموت فى غير أوانك" .. 

هذه العادات الضارة، عادات الخمر المسكر، الأشياء الأخرى المدمرة التى يأخذها الشباب حاليا، كثير من الأدوية التى يسموها المهدئات، وهى مخدرات وهى قاتلة، وعلى الرغم من التحذيرات التى يحذر بها الأطباء، إنما كما يقولون لكى يحدث له انتعاش، كل هذه الأشياء عندما يعتاد الإنسان عليها وتصبح عادة، فى الأول تبدأ خيوطاً حريرية، ثم تتحول إلى قيود حديدية، يكون هذا الإنسان أحيانا مقتنع أنه يتركها، لكن يقول أنه غير قادر، هنا الإمتحان، أنت متعلق بهذه العادة، وتحبها على الرغم من إيمانك بأضرارها، ولو أنى أشك أن يكون الإنسان مؤمن تماماً بهذه الأضرار، ومع ذلك يواصل الارتباط بهذه العادة الرديئة، لأنه لو فعلا كان يدرك تمام الادراك، بشاعة النتائج التى تترتب على هذه العادة الرديئة، وكان فعلا يحب نفسه، لابد أنه يترك هذه العادة، ويضحى ويقسو على نفسه، حتى لو تحمل يوم أو يومين أو ثلاثة، بعض التعب فى سبيل التخلص من هذه العادة، لكن لأنه يحب نفسه، ومن قال أن الإنسان لا يحب نفسه، المسيح قال "أحبب قريبك مثل نفسك" ولم يقل أن الإنسان يكره نفسه، لا.. بالعكس قال "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" إذن النفس غالية وأنا لا أبيعها لابد أن الإنسان يحب نفسه، لكن لا تكون محبة الإنسان لنفسه على حساب غيره، هذا معنى أحبب قريبك كنفسك، معناه أنك تحب نفسك أيضا وتحب قريبك مثل محبتك لنفسك، لكن لم يقل أن الإنسان يبغض نفسه إلا فى هذا الموقف، فلا خطأ بل الواجب أن الإنسان يحب نفسه، لأن نفسه عطية أعطاها الله فلماذا يكرهها؟ إلا إذا كان معوج من الداخل، يوجد اعوجاج فى حياته، أو كان إنسان يميل إلى أن يموت، يريد أن يقتل نفسه، وهذا إنسان غير مسيحى، إنما كلمة أحبب قريبك مثل نفسك، معناها أننى أحب نفسى، وأيضا أحب قريبى محبتى لنفسى، أى لا تكون محبتى لنفسى على حساب غيرى، لكن أن يحب الإنسان نفسه هذا أمر مطلوب.

عندما تكون نفسك فى شهوة، ستدمرك صحياً أو نفسياً أو عقلياً أو ذهنياً، مثل ما نرى فى بعض شبابنا، أن العادة السرية تدمره ذهنياً وعصبياً، وتقوده إلى ضعف الذاكرة، وإلى ضعف القدرة على التركيز، وأضرار كثيرة، ويترتب عليها أيضا ضعف الشخصية، والخمول والبلادة، أضرار العادة السرية بشعة وشنيعة جدا، ومع ذلك يحبها، ويتعلق بها، هنا إن كان أحد لا يبغض حتى نفسه، لا يستطيع أن يكون لى تلميذاً، لا يمكن أن تكون تلميذ للمسيح، وتكون خاضع لمثل هذه العادة، أو غيرها أو أى نوع من النجاسة، أو أى نوع من الشر أو العادة الرديئة، طالما أن هذه العادة، مدمرة لك روحياً وذهنياً وعصبياً وجسدياً وصحياً. فأنت فى هذه الحالة تقتل نفسك، وهذا القتل للنفس خطيئة ضد الله، لأنك أنت مخلوق، وهذه الحياة ممنوحة لك، فليس من حقك أن تدمرها، أنت مسئول، هذه وزنة وهذه الوزنة إذا أنت طمرتها فى الأرض ستحاسب عنها، يسأل الله لماذا طمرت فضتى تحت الأرض؟ هذه الوزنات نحن نحاسب عنها، فالنفس أنا لا أدمرها لأنها ليست ملكى، عطية من الله ولا أبغضها، ولكن إذا كانت هنا عادة رديئة، أو ميول ونزعات، أو  شهوات تعوق الإنسان عن طريق الخلاص، هنا ينبغى أن يبغض نفسه بهذا المعنى، أى يأتى ضد نفسه، لأنه فعلا عندما تحاربه العادة، وهو يأتى ضدها فهو يرى أنه متعب ومتضايق، ويريد أن يتخلص من هذه العادة.

هنا إذن نفهم أن المسيح وهو إله الحب، يبين لنا أن هذه المحبة لها ثمن، ولا بد أن نكون مستعدين لأن ندفع الثمن، كل حاجة لها ثمن، يقول: 
أن ملكوت السموات يشبه تاجر لآلىء، اشترى لآلىء كثيرة، لكنه وجد هناك لؤلؤة أعظم من كل هذه اللآلىء التى كانت عنده، فأراد أن يشترى هذه اللؤلؤة الكبيرة، لكن وجد أن ثمنها غالى جداً، يقتضى الأمر لكى يشترى هذه اللؤلؤة الكبيرة، أنه يبيع اللآلىء الأخرى، هنا الإمتحان ماذا يصنع؟ 

لا يوجد طريق أمامه إلا أن يبيع كل ما عنده لكى يشترى هذه اللؤلؤة، يقول عنه الكتاب "باع كل ما يملك واشترى اللؤلؤة" هذا هو المعنى أن الإنسان يبيع كل ما يملك لكى يشترى اللؤلؤة الكثيرة الثمن الغالية جدا، ما هى اللؤلؤة الثمينة؟ الخلاص الأبدى، ميراث ملكوت السموات لؤلؤة كثيرة الثمن، لكن ما هو الثمن الذى أنا أكون مستعد له، أبيع كل عادة رديئة، تبيع كل شهوة تقف ضد محبتك لله، أو تعطلك عن أن تشترى، هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن.

بهذا نكون قد شرحنا معنى "من يأتى إلىّ ولا يبغض .....  حتى نفسه أيضا، لا يستطيع أن يكون لى تلميذا" ...

نعمة ربنا يسوع المسيح فلتشملنا جميعا، ولربنا الإكرام والمجد إلى الأبد آمين.

وردت فى موسوعة عظات فى آحاد شهرى هاتور وكيهك  -  رقم (44)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بدعة كيرينثوس

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

أسئلة عن تلاميذ السيد المسيح