تيموثاوس

تيموثاوس

"إلى تيموثاوس الابن الحبيب" 1تى 1: 2

مقدمة

لعل من أجمل ما كتب دكتور جورج مليجان، وهو يتحدث عن صحابة بولس، أن لوقا قد يكون طبيب الرسول طوال حياته، ومؤرخ قصته بعد موته، وأن برنابا وسيلا وأبلوس قد يكونون فى نظر الكنيسة عامة من أهم أصحابه ورفاقه، ولكن تيموثاوس يتميز عن الجميع بدرجة خاصة فى الصداقة، إذ هو « الابن الحبيب » والذى برهن على جدارته فى أن يصبح المسئول عن العمل العظيم الذى تركه الرسول الكبير وراءه،.... وإن كنا نتردد كثيراً مع ج. ر. مكدف فى قبول التقليد الذى يزعم أن رفات تيموثاوس الحقيقية موضوعة فى مزار بكنيسة القديس بولس فى روما، حيث يقال إن رفات بولس هناك جنباً إلى جنب مع رفات تيموثاوس، وتوجد على المزار هذه العبارة:  « هنا رفات الرسول تيموثاوس حيث يرقد جسده ويستريح»... على أنه وإن كنا نتردد فى قبول هذا التقليد لأسباب متعددة ولعل أهمها أن تيموثاوس كانت أعظم وأطول خدماته المعروفة فى أفسس،... إلا أننا مع ذلك لا نتردد فى أنه كان أقرب القلوب فى حياته إلى الرسول بولس، وأنه الرجل الذى تلقى رسالتين من الرسول، وأنه فى رسائله ذكر اسمه ست عشرة مرة، يتحدث فى ست منها عن العلاقة الشخصية التى تربطهما معاً، وفى ست أخرى عن المركز الذى صار له كشريك لبولس فى كتابة الرسائل، وفى أربع كابن له!!.. ولعل هذا كله يكشف عن شخصية تيموثاوس العظيمة التى يحسن أن نتابعها فيما يلى:

تيموثاوس وحياته

ما هى الصورة التى يمكن أن نتخيلها، ونحن نذكر قصة تيموثاوس عن شخصيته وسماته وصفاته،... أغلب الظن أننا نتصور أول الأمر تيموثاوس الجميل الصغير المعمود، النحيل الذى تعاوده الأزمات الصحية بين الحين والآخر، والذى لم ير الرسول بدا من النصيحة التى ظلمت فى كل التاريخ، إذ أضحت ذريعة الكثيرين وحجتهم فى شرب الخمر: «لا تكن فى ما بعد شراب ماء بل استعمل خمراً قليلا من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة»... (1 تى 5: 23) وإذا كنا نشفق على الغلام العليل وهو يتلوى من آلامه الكثيرة، فإننا نعجب أشد العجب للتحريف الذى أخذ شكل التعبير: قليل من الخمر يصلح المعدة » ويتخذ حجة لشربها وإدمانها، وشتان ما بين السماء والأرض، بين الخمر وهى تؤخذ فى حالة أقرب إلى الصفة الطبية، وأولئك الذين يتجرعونها دون توقف أو تحديد، يبدون كما لو أن بطونهم جميعاً وأجسادهم ملأها المرض والسقم،... على أية حال إن الشاب القديم ينتصب أمامنا، وقد شاء له اللّه فى قصته لحكمة أسمى وأعلى أن يعيش عليلا مريضاً كثيرا الآلام والأسقام،.. ولست أعلم مدى الأثر الذى تركته هذه الآلام فى حياته، إلا أنها كانت على الأغلب أحد الأسباب الكثيرة التى جعلت تيموثاوس شاباً من أرق النفوس وأحلاها وأصفاها على هذه الأرض، وكلنا يعلم أن روبرت لويس استفنسون عانى طوال حياته من علة المرض الذى جعل مربيته والتى كانت تسهر عليه وهو غلام صغير لا يعرف النوم طوال الليل، وكانت تفتح له النافذة، لكى يرى بيوتاً أخرى منارة، بها من يشكو ولا يعرف النوم مثله، وتعلم الغلام الصغير من نعومة أظفاره، أن الأرض تحمل مثله ملايين الناس من المعذبين والمتألمين، وأنه يجمل به أن يكون رقيقاً ودوداً عطوفاً على آلام الآخرين،... كان تيموثاوس على الأرجح على هذه الصورة علمه الألم الذى يعانيه، والدموع التى يسكبها، كم ينبغى أن يكون رفيقاً رقيقاً بالغ الرقة والرفق بآلام الآخرين من الناس، كان واحداً من أعظم الناس الذين تكلموا مراراً كثيرة بلغة الدموع، وقد هز وجدان بولس من الأعماق، وظلت ذكرى دموعه ماثلة فى ذهنه ومشاعره، وهو يكتب له فى رسالته الثانية: « مشتاقاً أن أراك ذاكراً دموعك »... (2 تى 1: 4). إنه ذلك النوع من الناس المحب المخلص العميق فى إخلاصه، الذى يمتلئ بالحب النقى الصافى، والذى لا يعرف شبهة أو تردداً فى إخلاصه العميق،... قد لا يكون له جبروت بولس، ولا يمكن أمام المواقف القاسية الشديدة، أن يتحول إعصاراً عاتياً مثل معلمه الجبار،... لكن الجبابرة أنفسهم يحتاجون إلى النسيم الذى يهب على نفوسهم فى معركة الحياة،... كان تيموثاوس بالنسبة لبولس وفى حياته يصلح أن يكون ثانياً، ولا يمكن أن يخطو إلى الصف المتقدم إلى جوار أستاذه ومعلمه،... وهو يصلح أن يكون تابعاً مكملا، ولكنه لا يستطيع أو يقبل أن يكون ندا أو منافساً، وفى ذلك يصفه دكتور أ. جيرنى فى مؤلفه الثمين عن رسالة تيموثاوس الأولى: «هناك الوحدة الأعمق فى التباين، إنها ليست التشابه فى التماثل، بل التشابه مع الاختلاف،... إن اللّه يحتاج إلى تيموثاوس جنباً إلى جنب مع بولس، وكم يبدو مراراً كثيرة ضعيفاً بالنسبة لقوة بولس الشيخ الجبار، ولكنه مع ذلك كان مصدر قوة عظيمة له ومشجعاً وضرورياً. كان الواحد: الأب الروحى والآخر الابن الحبيب... لقد ولد أحدهما قائداً بين الناس، مختاراً، ورائداً لإيمان عظيم لا يعيا أو يتقهقر، وعندما بدا غيوراً كان ينفث تهدداً وقتلا على أتباع الرب.... والآخر ولد راغباً فى أن يكون فى المركز الثانى، غير متأكد على الدوام من نفسه، إذ كان يميل للاعتماد على الآخرين دون أن يأخذ مركز الرئاسة،... كان أحدهما قوياً يملؤه اليقين الذى يجعله بالإيمان أعظم من منتصر، إذ هو واثق، مهما تخلى عنه البشر، بأنه معان باللّه، وهو لهذا لا ينقص أبداً عن فائقى الرسل، ولكن الآخر، وديع فى استخدام مواهبة يتردد بعض الأحايين فى تأكيد سلطانه تجاه الواجبات المفروضة عليه إلى الدرجة التى يقال معها: « ثم إن أتى تيموثاوس فانظروا أن يكون عندكم بلا خوف. لأنه يعمل عمل الرب كما أنا أيضاً. فلا يحتقره أحد بل شيعوه بسلام ليأتى إلىَّ لأنى أنتظره مع الإخوة » (1 كو 16: 10، 11)... وقد أضاف دكتور هربرت لوكاير إلى ذلك قوله: «إن تيموثاوس يحمل قلباً وديعاً صادقاً محباً للسلام، وهو كسيلا يصلح أن يكون ثانياً بصدق وحرارة الصديق الذى يكشف عن روح الراعى والناظر أكثر من المرسل الرحالة،... وهو مع بولس مهما اختلفت المواهب والوزنات، لكنهما يرتبطان بالإيمان المشترك والتعبد المشترك ليسوع المسيح،... وهما كوترين فى قيثارة يصدران لحناً صافياً لإلههما المخلص، وكلاهما يحملان حباً لا يموت لسيدهما وإنجيله الذى يريدان نشره فى كل مكان، ويرغبان بقلب واحد فى إتمام غرض اللّه فى الخلاص»...

ولا شبهة فى أن تيموثاوس إلى جانب هذا كله كان يتميز بالصراحة الكاملة التى لا تعرف التواء أو مكراً أو تحفظاً بأية صورة من الصور، إذ ورث عن أمه وجدته الإيمان الصريح العديم الرياء، فى الأصل اليونانى تعنى التى لا تلبس القناع، أو فى لغة أخرى إن الصراحة كانت من أهم صفاته وأقواها، فالظاهر عنده كالباطن والخارج كالداخل سواء بسواء، وهو لا يعرف التمثيل أو يتقنه، كالكثيرين من الممثلين أو المخادعين أو السياسيين من ذوى الوجهين أو أكثر من الوجهين، الذين يلبسون لكل حالة الصورة المناسبة لها، حتى ولو كانت على العكس تماماً من الحقيقة الداخلية عندهم،... أو كما يقال إن لهم القدرة على أن يأكلوا الشاة مع الذئب، وينوحوا عليها مع الراعى،... ولسنا نعلم كم جلب هذا الخلق على تيموثاوس من آلام ومتاعب، ولعله تعلم، عندما أوغل فى الخدمة، أن يجمع بين الصراحة والحكمة فى التصرف، إذ ليس كل ما يعرف يقال، بدعوى الصراحة الواجبة اللازمة التى قد تتحول فى بعض الأحايين تعباً وضرراً على صاحبها، الأمر الذى تعلمه يوسف، ولكن بعد سنوات قاسية من الألم والتشريد والضيق والغربة،... عندما تحدث فى صباه عن أحلامه لإخوته، وعن نميمتهم لأبيه. لم يكن يعلم بأنه يضع الأساس العميق لكراهيتهم له، والقسوة البالغة التى عاملوها بها،... وقد عدل عن هذا وهو يتحدث إلى رئيس السقاة، فهو يتحدث إليه عن الظلم الذى عاناه دون أن يشير البتة إلى ما فعل إخوته أو زوجة فوطيفار: «لأنى قد سرقت من أرض العبرانيين. وهنا أيضاً لم أفعل شيئاً حتى وضعونى فى السجن». (تك 40: 15).. على أية حال كانت الصراحة واحدة من السمات الواضحة فى علاقة تيموثاوس باللّه والناس إذ كان يحمل الإيمان الصريح العديم الرياء!!..

وفوق هذا كله كان تيموثاوس الشخص الذى تستطيع أن تثق به، وتعتمد عليه،... وإذا كان أحد الحكام البيض قد وضع على قبر دكتور أجرى الزنجى الأفريقى هذه العبارة: «تستطيع أن تثق به تماماً»... فإن هذه الكلمة تصلح بكل يقين فى وصف تيموثاوس، الشاب الذى أحس بولس وهو فى لحظاته الأخيرة بالحاجة إليه: « بادر أن تجئ إلىَّ سريعاً » (2 تى 4: 9) وهو الشخص الذى كان يأتمنه ويثق به ويعتمد عليه فى كل الأوضاع والظروف،... ولك أن تتأكد أن أى عمل يعد تيموثاوس بالقيام به فلابد أنه سيفعله مهما واجه من صعاب أو مهما تكلف من مشقات بل لو كلفه الحياة بجملتها،... إذ هو الخادم الذى امتلأ من الإيمان والطاعة مما يجعله صورة من أندر الصور وأعظمها للوفاء العميق الرائع النبيل!!.... 

تيموثاوس ونشأته

تحدثنا فى كتاب « نساء الكتاب المقدس » عند عرض شخصية افنيكى أمه عن هذه النشأة، ولا نود أن نعمد إلى التكرار، غير أننا نقول إن هذا الشاب كان يمكن أن يضع تاريخه تماماً، أو كان يمكن أن يتحول شريراً آثماً لو أنه أخذ القدوة من أبيه الذى كان يونانياً وثنياً،وكان يمكن أن تدمر وثنيته حياة الغلام الصغير... ذهب الشاب هنرى مع أبيه إلى المدينة، ومكث فى مكتبه إلى وقت الغداء، وكانت هذه هى أول مرة يمكث فيها هنرى مدة طويلة فى المدينة وقد سر كثيراً من كتب أبيه وأوراقه ومكاتبه وأدراجها، وقد كان وأبوه صديقين، وعندما ذهبا لتناول الغداء فى مطعم قريب، كان والده معروفاً فيه، طلب الأب أصناف الطعام، وعندئذ سأل الخادم الغلام عن الشراب الذى يطلبه. ولم يسأل الخادم أباه لأنه كان يعلم أن من عادته أن يتناول زجاجة من الخمر كل يوم،... وروع الأب أن جواب ابنه هو: أنا أتناول ما يتناوله أبى،... وكان لابد أن يفعل شيئاً فأسر فى أذن الخادم أن يأتيه بكوب لبن بدلا من زجاجة الخمر، وجاء الخادم بكوبين أحدهما للأب والآخر للابن،... وعندما خرج من المكان كانت الكلمات التى قالها الصغير ترن فى أذن أبيه أنا أتناول ما يتناوله أبى!!.. وفحص الرجل نفسه، وأقلع عن الخمر والتدخين والعادات الرديئة التى كانت تسيطر عليه!. ربما لم يكن أبو تيموثاوس هكذا... ولكن لعل الغلام كان محظوظاً لأن أباه مات وهو صغير،... أو لأن الأم والجدة طوقتاه بالحنان والحب والرحمة، واستطاعتا تربيته من الصغر على صورة تجنبه التأثير المدمر الذى قد يأتيه من أبيه الوثنى!!.. وهناك سيل لا ينتهى من أمثال افنيكى ولوئيس من الأمهات اللواتى لولاهن لضاع أعظم الأبطال والعظماء.. قيل عن واحد من أعظم علماء النبات فى الغرب إنه لم يكن يرى نبتة إلا ويتناولها ويشمها أو يقبلها ثم يقابل بينها وبين غيرها، ولاحظت أمه هذا فأسرت به لوالده فسخر منها، وأصر على أن يعلم ابنه مهنة تفيده، ولم يكن الولد يميل إلى المهنة، فهدده والده بإحراق جميع كتبه فى التاريخ الطبيعى إذا ظل على ملازمته هوايته، ثم فوض أمره إلى نجار بارع ليعلمه المهنة، وكانت المهمة الشاقة على الأم أن تشجع مواهب ابنها، فى الوقت الذى لا تثير فيه ثائرة الأب عليه، وكان من أقسى الأمور أن يجمع الغلام بين طاعته لأبيه وإرضائه لهوايته، إلى أن تمكن من أن يقنع العالم كله بعظمة أبحاثه كعالم للنبات، وقد ظل طوال عمره يذكر أمه بفخر قائلا: «أنا مدين لأمى بنجاحى»... وقد قيل إن المؤرخ ميشلى كان يقول: كل ما تذكرت أمى، تنحدر الدموع من عينى لقد فقدت فى هذه الوالدة الكريمة آخر صديق لى!!.. لقد كانت قدوة صالحة ومشجعاً صادقاً لى فى جميع واجباتى وأعمالى. وفردريك العظيم ملك بروسيا كانت والدته دوريثا المشهورة بحصافة العقل وسداد الرأى أكبر موجه له. وبرنارد دى سان الكاتب الشهير كان والده يائساً من تعليمه ولكن مربيته خالفت الرجل الرأى، وهيأت له الفرصة التى مكنته من أن يكون الكاتب العظيم!!..

على أية حال من الثابت أن أفنيكى ولوئيس جهزتا الغلام من الطفولية أجمل تجهيز وأعدتاه أعظم إعداد ومن المعتقد أن تيموثاوس يذكر هذا بالفخر طوال حياته على الأرض، كما كان يفعل داود ليفنجستون ومارى سلسر ودوايت مودى وغيرهم ممن تركت الأمومة أعظم الأثر فى حياتهم الروحية الخالدة أمام اللّه!!..

ومن المعتقد أن تيموثاوس نال التجديد على يد بولس وهو فى أوائل الشباب ربما بين الخامسة عشرة والعشرين من عمره، ويرجح هربرت لوكاير أن كلمة بولس: « لذلك أرسلت إليكم تيموثاوس الذى هو ابنى الحبيب والأمين فى الرب الذى يذكركم بطرقى فى المسيح كما أعلم فى كل مكان فى كل كنيسة » (1 كو 4: 17).. بالإضافة إلى قوله: « الابن الحبيب » (1 تى 1: 2) وكذلك « فتقو أنت يا ابنى بالنعمة التى فى المسيح يسوع » (2 تى 2 - 1)... تشهد جميعها بأن تيموثاوس جاء إلى السيد نتيجة لوعظ بولس فى لسترة أو حياته وخدمته فيها!!... وأيا كان الأمر فمن الواضح أن بولس تولى الغلام برعاية أب يهتم أعمق الاهتمام بابنه الروحى الذى يحبه من كل قلبه!!... وكان تيموثاوس ولا شك من أسعد الناس على الأرض، بأن يكون لوئيس وأفنيكى وبولس معلميه ومدربيه فى الحياة والخدمة المسيحية!!.. 

تيموثاوس والخدمة المثالية

ربما لم يهتم بولس بخادم كاهتمامه بابنه تيموثاوس، ويكفى أن نطلع على ما جاء فى رسالته إليه، وهو يرينا الخادم النموذجى الناجح فى شخصه، وكنيسته، وكتابه!!.. فالرسالة الأولى، فى الأصحاح الثالث، ترينا الشروط الواجب توافرها فى الأسقف، ولم يكتف الرسول بذكر هذه الشروط عامة، ولكنه أوصى بتيموثاوس فى الأصحاح الرابع بالتطبيق العملى لها، فكشف لنا عن:

(1) الخادم المتربى: «إن فكرت الإخوة بهذا تكون خادماً صالحاً ليسوع المسيح متربياً بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذى تتبعته»... وكلام الإيمان يقصد به التعليم المسيحى العام، والتعليم الحسن يشير على الأغلب إلى التعليم العقائدى أو فى لغة أخرى إن من واجبنا أن نتمتع، كخادم كلمة اللّه، بما تبعثه هذه الكلمة فى حياتنا من تعاليم ووصايا وعقائد!!... ومن واجبنا مصاحبة هذه الكلمة باستمرار لأن التربية تستلزم المداومة، وهنا يمكن أن نلاحظ ما قاله دين انج: « إنه من الطبيعى والمحتوم أننا إذا صرفنا ست عشرة ساعة يومياً فى أعمال العالم وخمس دقائق فى التفكير فى اللّه والنفس فإن العالم سيضحى واضحاً وحقيقياً أمامنا مائتى مرة أكثر من اللّه أو النفس.

(2) الخادم الواثق: والخادم المتربى لابد أن يكون الخادم الواثق الذى يستطيع أن يوصى بالسلطان الذى له من اللّه ويعلم، كمن يقف على أرض ثابتة صخرية، ولا يستطيع الخادم أن يبلغ هذه الثقة إلا إذا لاحظ الذين يخدمهم أنه يتكلم مستنداً إلى كتاب اللّه، وأنه يتكلم، وهو مؤمن بما يقول، وأن يبدو من تصرفه ما يؤكد ذلك.

(3) الخادم المثال: ولا يشترط أن تأتى المثالية وليدة السن المتأخرة، لقد كان المطلوب من تيموثاوس أن يكون قدوة رغم حداثة سنه، ولقد كان عندما كتب له الرسول فى الخامسة والثلاثين من عمره على ما يرجح البعض.

(4) الخادم القارئ: وهى نقطة بالغة الأهمية إذ يحرض الرسول بولس تلميذه على الدرس المتواصل، ولعل كلمات ألكسندر هوايت فى هذا الصدد هى خير ما يقال: «إن هذه الكلمات لوجاءت فى هذه الأيام من خادم خبير إلى خادم مبتدئ، فربما كانت تجئ على هذا المثال: واظب على الدراسة واحرص عليها على الدوام ولا تجلس دون أن يكون فى يدك كتاب أو قلم، ولا تقرأ الكتب التافهة أو المؤذية أو غير البانية فليس لك الوقت أو المال لتفعل ذلك.. لا تقرأ شيئاً إن لم يكن الأفضل فى نوعه، سواء كان فى الأدب أو الدين أو أى شئ آخر.. كن كملتون فى شبابه النبيل»... ولكن القراءة فى أيام تيموثاوس كانت تعنى شيئاً أكثر من ذلك.. فقد كانت تعنى الوعظ التفسيرى، أو المحاضرة.. وقد كان الاباء الأقدمون يقرأون الكتاب ليفسروه وليحاضروا فيه كما فعل الذهبى الفم وأغسطينوس. وكما كان كلفن يفعل على منبره الخشبى فى جنيف».

(5) الخادم الموعود: وقد لاحظ بولس أنه وهو يتحدث إلى ابنه الشاب تيموثاوس مذكراً اياه بهذه الواجبات، أن هناك أعظم وعد ينتظره وهو وعد يشمل الحياة الحاضرة والعتيدة، فإذا كانت الرياضة الجسدية نافعة لقليل فإن التقوى لها موعد الحياة الحاضرة والعتيدة، ومن يمتلكها يمتلك النجاح فى العالم الحاضر والأبدية أيضاً!!..

فإذا تحولنا من الخادم إلى الكنيسة، فهناك عمود الحق وقاعدته، وهى المكان الذى ينبغى أن يعد فيه المؤمنون أجمل إعداد وأكمله، والمطلوب من تيموثاوس أن يجعل من الكنيسة معهداً للكتاب المقدس أو مدرسة لاهوت، ولعل من الطريف أن نتذكر هنا أن سيدة سألت دكتور أيرنسيد قائلة له: « هل تستطيع أن تخبرنى أين يوجد فى الكتاب ما يحتم تعليم الخدام فى معاهد للكتاب المقدس أو مدارس لاهوت، وقال أيرنسيد: يا سيدتى أنا لا أعرف بالضبط المكان ولكن أعلم أنه لابد أن يكون فى المكان التالى للآية التى تلزم بالذهاب إلى المدارس العامة، إن كانت هناك مثل هذه الآية، ثم تذكر أيرنسيد بعد ذلك أن ما قاله الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس هو بمثابة فتح لمدارس لاهوت: «وما سمعته منى بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً!!..» وهنا يفرق الرسول - كما يقول بروفسور بلامر - بين الأحاديث والتعاليم الخاصة التى ولا شك علمها لتيموثاوس، وبين التعاليم العامة التى علمها له على مسمع من الجميع، والتعليم التى يعنيها الرسول ههنا هى التعاليم العقائدية والوعظية التى تحدث بها بولس، والتى تتناول مناقشة للأمور والأوضاع الخاصة،... والرسول يعلم بأن هذه التعاليم ينبغى أن تتداول من جيل إلى جيل، ويلزم أن يتوفر أمران فيمن يتداولونها، وهما الأمانة والكفاءة، وكل طالب لاهوت يريد أن يقدم خدمة ناجحة، لا يمكن أن يقدمها مالم يكن أميناً فى حياته الروحية وكفؤا فى استعداده الذهنى ومقدرته العلمية،... والخدمة لا ينبغى أن يسعى إليها أو يكلف بها من لم تتوفر له هاتان الخلتان!!..

فاذا أضفنا إلى الخادم والكنيسة، الكتاب الذى ينبغى أن يكون مرتبطاً بالخادم، نتذكر كيف تعلم تيموثاوس الكتاب وهو طفل على أيدى جدته وأمه، وكيف استمع إليه على فم بولس،... والكتاب لابد أن ينسخ فى قصة حياتنا ونحن نرضع من ثدى أمهاتنا... قال أحد الشيوخ القديسين: إن أجل ذكريات الطفولة وأبعدها أثراً فى حياتى، الذكريات التى بقيت معى، هى اللحظات التى كانت أمى تقرأ فيها لنا أجزاء من الكتاب المقدس كل صباح وكل مساء... وقال أحدهم:  - وقد كان من عادة الآباء اليهود أن يعلموا أولادهم الشريعة فى الخامسة من العمر، إن كل الآباء المسيحيين هم الكهنة الذين عينتهم عناية اللّه لبيوتهم ومن واجبهم أن يضرعوا إلى اللّه من أجل أولادهم وعندما نأخذ الكتاب المقدس بالإيمان فهو قادر أن يهدى ويحكم للخلاص الذى فى المسيح يسوع وإذا كنا - من الصغر - نقرأ كتباً كثيرة، فإن أول واجب هو أن نقرأ كتاب اللّه لأنه يختلف عن كل كتاب آخر!!..). وقد ذكر أحدهم أن ما يميز الكتاب المقدس عن الكتب الأخرى، ويربط الستة والستين سفراً فى كتاب واحد، هو الوحى والإعلان، إذ أنه كتاب موحى به من اللّه، ومعلن للناس. وأحسن شهادة عن الوحى موجودة فى كلمات اللّه نفسها، ولذا قال هوش تايلور: إن الكتاب حين يدرس، ويحب، ويطاع، ويوثق به، لا يمكن أن يخدع أو يضلل أو يفشل، والكتاب ينفعنا فى كل ظرف إذ أنه ينير الجاهل، ويوبخ الشرير، ويصحح طريق من يريد السلوك فى البر،... إنه يجعل إنسان اللّه متأهبا لكل عمل صالح!!.. عندما سئل دكور جاك - وهو من أساتذة اكسفورد - كيف يمكن أن نعلم الدين؟... أجاب: نحن نعلم الدين فى كل وقت، إذ نعلمه فى الحساب بالتنظيم، وفى اللغة بالدقة.. وفى التاريخ بتعليم الإنسانية، وفى الجغرافيا باتساع الذهن، وفى الفلك بالتأمل... نحن نعلم الناس أن يبنوا كنيسة المسيح.. 

تيموثاوس والجذوة المضرمة

من الواضح أن تيموثاوس عانى الكثير من المتاعب وهو يواجه الخدمة بما فيها من مشقات وصعاب، ويبدو أن جذوة الغيرة للخدمة والحماسة لها، تعرضتا للضعف أو الانطفاء وجاءه صوت الرسول: « فلهذا السبب أذكرك أن تضرم موهبة اللّه التى فيك بوضع يدىَّ، لأن اللّه لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح » (2 تى 1: 6 و7).. كان بولس قد سبق فوضع يده عليه عندما رسم تلميذه للخدمة المقدسة،... ووضع اليد كان علامة ورمزاً لعمل روح اللّه الداخلى عندما يدعونا للخدمة المقدسة،... والانسان يشتعل فى بدء هذه الخدمة بنارها الملتهبة،.. ولكن هذه النار لا تلبث أن تتعرض للخمود أمام قسوة الخدمة وأشواكها!!.. ولعله ليست هناك مشقة تواجه المرء كما تواجه خادم اللّه، أو كما قال أحدهم: « إذا كان الواعظ أشيب الشعر قيل عنه إنه عجوز، وإذا كان شاباً قيل إنه حدث ليس له اختبار، وإذا كان له عشرة أولاد ضج الناس من كثرتهم، وإذا لم يكن له ولد قيل إنه لا معرفة له بأولاد الناس، إذا رنمت زوجته فى فرقة الترنيم قيل إنها غير رزينة، وإذا لم تفعل قيل إنها لا تهتم بعمل زوجها، وإذا استعمل الواعظ مذكرات فى منبره، تذمروا منه، إذا لم يستعمل قيل إنه غير متعمق فى وعظه، وإذا جلس فى بيته للدرس قيل إنه لا يهتم بالزيارات، وإذا رؤى فى الشوارع قيل إنه من الواجب أن يكون فى بيته ليستعد أكثر فى مواعظه، وإذا اهتم بعائلة فقيرة قيل إنه يتظاهر بالوداعة، وإذا اهتم بعائلة غنية قيل إنه ارستقراطى، ومهما يفعل فسيجد من يقول إنه كان يمكنه أن يفعل أحسن.. هل عانى تيموثاوس شيئاً من هذا!!؟... هل ضاق بمرضه ومتاعبه وسأل نفسه وربه لماذا يعيش مريضاً طوال حياته وهو يخدم اللّه، وهل أثر مرضه على الخدمة.. كانت تجربة قاسية على أية حال!!.. وهى تجربة الذين يعيشون أسرى علتهم وسجناء سرير مرضهم.. ولكن اللّه مع ذلك يرفعهم فوق علتهم وشوكتهم،... هل كان تيموثاوس يعانى كشاب غض الاهاب حيا رقيقاً خجولا بطبيعته،.. عندما عيروا وليم بت فى مجلس العموم بأنه شاب صغير!!.. التفت إلى معيريه وهو يقول: أنا أعلم أن عيبى هو ما يتمنى كل واحد منكم أن يكون فيه!!.

وأيا كانت أسباب المتاعب أو قسوتها فمن الثابت أن تيموثاوس نجح فى اضرام النار مرة أخرى، ولعله وهو يستمع إلى تنبيه بولس، تذكر أول كل شئ أن المتاعب هى الضريبة الأساسية فى الخدمة، والتى لا يجمل به كخادم أن يتراجع عنها أو يتخاذل تجاهها، ويكفى التلميذ أن يكون كمعلمه فإذا كان المسيح هو المثل الأعلى، فان بولس نفسه تحدث إلى تلميذه قائلا: « فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح » (2 تى 2: 3).. كان أحد الخدام يتذمر من معاملة الناس له فى كنيسته، ويتحدث عن قسوتهم وعدم رحمتهم، فقال له زميله الذى كان يستمع إلى شكواه: وهل بصق أحدهم على وجهك!!؟.. فأجاب: كلا ليس إلى هذا الحد!!؟.. هل ضربك واحد منهم!!؟ قال: كلا؟!. هل وضعوا إكليلا من شوك على رأسك!!؟.. وهنا أدرك الآخر ماذا يقصد زميله، وأحنى رأسه فى خضوع وتأمل، وأدرك أنه مهما كانت آلامه فليست شيئاً إزاء آلام سيدنا الأعظم،... ومن الواجب علينا ألا نهتم كثيراً بنفوسنا، بل ليكن اهتمامنا الأول بكلمة اللّه التى نقوم بخدمتها. وقد ذكر بولس تيموثاوس بذلك فى قوله: « الذى فيه أحتمل حتى القيود كمذنب. لكن كلمة اللّه لا تقيد »... فإذا تعرضت لتجربة تيموثاوس، ورأيت الجذوة الملتهبة تتعرض للانطفاء فاستمع إلى نصيحة دكتور جويت الخماسية:

(1) عليك أن تذكر أول كل شئ أن نارك المقدسة قد تتعرض للانطفاء مهما كنت فى نظر نفسك كخادم للّه!!.. هذا شئ هام ينبغى ألا تطرحه من حسبانك!!..

(2) عليك أن تضع إرادتك بثبات خلف مواهبك،... فمثلا ضع إرادتك خلف محبتك، ولا تسمح لها البتة بالتقهقر أو التراجع، وليكن لك العزم الراسخ فى أن تبقى على الشعلة متوهجة لا تسمح لها بالانطفاء.

(3) دع خيالاتك تغذى إرداتك، ولينهض الخيال والإرادة معاً، وعلى سبيل المثال تأمل احتياجات وأحزان أية مدينة كبيرة، واضرم جذوة الحنان التى لا ينبغى أن تنطفى تجاه هذه الاحتياجات.

(4) يلزم أن نصلى بلا انقطاع، أن نضع نفوسنا فى اتجاه السماء حتى يهب علينا روح اللّه باستمرار. إذا أسقطنا الصلاة ضاعت الرياح المحركة!..

(5) ولنقدم للّه ذبيحة الحمد إذ أن القلب الشكور يرسل الأوكسجين للازم لاضرام الموهبة الخامدة!!.. 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بدعة كيرينثوس

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

أسئلة عن تلاميذ السيد المسيح