حنانيا المختلس

حنانيا المختلس

ورجل اسمه حنانيا وامرأته سفيرة باع ملكاً وأختلس من الثمن " )أع 5: 1 - 2 (

مقدمة

قيل إن أولفر كرومويل عندما أراد أن يطرد أعضاء البرلمان من دار الندوة، قال لجنوده مشيراً إلى الأعضاء: " أخرجوا هذه اللعب والمساخر من هنا "... ومن الغريب أن الزهرة التى يطلق عليها الإنجليز " زهرة مايو " البيضاء الناصعة البياض فى الريف الإنجليزى، يقل بياضها كلها اقترب المرؤ من مدينة لندن، إلى درجة أنها هناك تكاد تصبح سوداء لكثرة ما يعلق بها من الدخان والأتربة القذرة.

كان أول تراب يسقط على الكنيسة الناصعة الجمال، هو دخول رجل وامرأة إلى عضويتها يحملان قذارة العالم وفساد الشيطان،... وكان على الكنيسة وهى تواجه الاضطهاد والعنف والعدوالخارجى أن تدرك الضربة المميتة التى يريد الشيطان أن يسددها إليها من الداخل،... ومن الغريب أن الكنيسة نجحت لمدة ثلاثة قرون وهى تواجه أعتى وأعنف اضطهاد خارجى ممثلا فى الامبراطورية الرومانية التى جندت كل قواها للقضاء عليها، دون أن تنال منها شيئاً، ولكن الكنيسة ترنحت وسقطت عندما عمل السوس فيها من الداخل، ينخر فى عظامها بالمفسدين الذين دخلوا فى عضويتها أو أخذوا مركز القيادة فيها!! وكان لابد لبطرس الرسول والذين معه أن يتصدوا لهذا الخطر الداخلى، كما تصدو للخارجى سواء بسواء!!... ومن هنا تبرز أهمية قصة حنانيا وزوجته سفيرة فى الخطوات الأولى لكنيسة الرب يسوع المسيح على الأرض! وهنا نحن نرى القصة لذلك فيما يلى:

حنانيا عضو الكنيسة

إن الصورة التى يظهر فيها حنانيا أمامنا يبدو واحداً من ذلك المجموع الهائل الذى انضم إلى الكنيسة بعد يوم الخمسين، ويبدو أنه كان من أولئك الذين استهوتهم الكنيسة بعظمتها وجلالها وسموها ومعجزاتها،... وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، وقد تحقق فيها قول النشيد "من هى المشرقة مثل الصباح جميلة كالقمر طاهرة كالشمس مرهبة كجيش بألوية " (نش 6: 10).. وفى كل عصور التاريخ عندما ينظر الإنسان نظرة صافية إلى الكنيسة لابد أن يجدها شيئاً عظيماً فريداً، لا نظير له أو شبيه فى كل مؤسسات الأرض... عندما زار ألكس دى توكفيل الفرنسى أمريكا منذ أكثر من قرن من الزمان، عاد يقول: " لقد بحثت عن عظمة أمريكا وعبقريتها فى موانيها وأنهارها ولكنى لم أجد أمريكا هناك، وفى حقولها الخصبة ومنتجاتها العظيمة، ولكنها لم تكن هناك، وفى مناجمها الغنية وصناعاتها الجبارة، ولكنها لم تكن هناك، إلى أن ذهبت إلى كنائس أمريكا واستمعت إلى منابرها، وهى تنادى بالبر والحق، وهناك أدركت سر عبقريتها وقوتها، وستبقى أمريكا عظيمة طالما هى طيبة وخيرة، وإذا لم تكن كذلك فستنفذ عظمتها "... أجل!! وهذا حق، لا شك فى أن العالم قد اكتشفه من اللحظات الأولى فى تاريخ الكنيسة، ويكفى أن أرستيدس عندما كتب للامبراطور هادريان يصف حياة المسيحيين الأوائل سجل هذه الروائع عنهم: " إنهم يعزون من يحزنونهم، ويصنعون الخير لأعدائهم، وعندما يصبح العبيد فيهم مسيحيين يدعونهم دون تفريق إخوة، وحياتهم تتميز بالتواضع والرقة، والبطل لا يمكن أن يعرف سبيله إليهم، وهم يحبون بعضهم بعضاً،... إنهم ينقذون اليتيم من يد من يقسو عليه، ويعطى من عنده من ليس عنده دون ضجر أو تذمر، وإذا وجد بينهم فقير أو محتاج، وليس لديهم ما يعطون فإنهم يصومون يومين أو ثلاثة أيام ليمنحوه الطعام اللازم لحياته... إنهم يعيشون بأمانة وعفة، كما أمرهم بذلك الرب إلههم، وفى كل صباح بل وفى كل ساعة يحمدون اللّه، ويرنمون له من أجل حسناته لهم، وعند الطعام أو الشراب يشكرون... وإذا ما انتقل عزيز لديهم من هذا العالم، فإنهم يفرحون ويشكرون اللّه، ويسيرون وراء جثمانه كما لو كان منتقلا من مكان إلى مكان، وإذا ولد طفل لأحدهم يحمدون اللّه من أجله، ولو تصادف ومات فى صغره فإنهم يشكرون اللّه أيضاً كثيراً، لأن الطفل قد اجتاز العالم دون أن يرتكب إثماً أو خطية... وكأناس يعرفون إلههم لا يسألون إلا الأشياء التى يليق به أن يعطيها، والتى يليق بهم أن يتسلموها، ووهكذا يسلكون سبيلهم فى الحياة. وكل ما فيهم من فضل ينسبونه إلى اللّه، ولذا فالجمال الذى فيهم يشع وينبثق من حياتهم دون تكلف، وهم حقاً من الذين اكتشفوا الحق فى الأرض، وسعوا إليه، والأفعال الصالحة التى يفعلونها لا يعلنون عنها أو يبوقون أمامها فى آذان الناس، بل يفعلونها فى صمت، ويؤدونها فى خفاء، تماماً كما لو وجد أحدهم كنزاً وسعى ليخفيه... وهم يجاهدون فى سبيل البر كمن يتوقعون أن يروا مسيحهم لينالوا ما وعدهم به مع مجد عظيم "...

وقد بدأت الكنيسة فى أورشليم بهذا كله، وكانت الاشتراكية العظيمة التى ظهرت بها شيئاً يبهر الأنفاس، ولذا سارع الكثيرون، ومن بينهم حنانيا وسفيرة ليأخذوا مكانهم فى مدينة الكمال التى أخذت تثبت أساساتها ودعاماتها فى الأرض!!.. 

حنانيا وعمق خطيته

تعتبر خطية حنانيا من النماذج الجديرة بالتحليل والبحث، وذلك لما تبدو عليه من نواح متعددة!!.. فهى الخطية البشعة التى جاءت وليدة العمل الشيطانى الكامل: " لماذا ملأ الشيطان قلبك " (أع 5: 3)... وقد يتساءل الكثيرون مندهشين: وأين البشاعة فى رجل باع ما يملك، واحتفظ لنفسه بجزء من ثمن البيع، وقدم الباقى مشاركاً فى العمل الخيرى كما فعل آخرون أيضاً!!؟.. ولعل حنانيا وزن الأمر بهذه الصورة ولم ير فى عمله عيباً أو ضرراً،... قد يتصور الإنسان أن البشاعة هى أن يرتكب ما يطلق عليه الكبائر فى لغة الناس من سرقة أو فسق أو فجور أو قتل أو ما أشبه، ولكن الحقيقة أن البشاعة تقاس فى العادة، فى قوانين السماء أو الأرض، على قدر ما يرتكب ضد النور أو المعرفة التى وصل الإنسان إليها،... وفى سائر القوانين الوضعية هناك تفرقة فى الجريمة، وهناك حد أعلى وآخر أدنى لمرتكبيها، فالقتل وهو إزهاق الروح لا يؤخذ كل من يقترفة بعقوبة واحدة، إذ هناك قتل السهو، وقتل الإهمال، وقتل الخطأ، وقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، والقاتل لا يعامل فى جميعها معاملة واحدة،.. والصبى الذى يقتل، لا يمكن أن يعامل معاملة الكبيرة السن،.. وهذا الأخير لا يعامل إذا كان مجهولاً، معاملة المحامى أو القاضى الذى يرتكب الجريمة، وهو على علم تام بأثارها ونتائجها والعقوبة التى لابد ستواجهه رداً عليها وجزاء لها!!... وهذه كلها من البديهيات المسلم بها، والتى نشأت أصلا عن المفهوم الدينى منذ القدم، فقبل الناموس، كان هناك ناموس الضمير، الذى قد يشتكى أو يحتج على فعل الخطية، ولكنه مهما كان النور الذى وصل إليه، فهو لا يمكن أن يبلغ نور الناموس الإلهى الذى أعلنه الله في الشريعة التي أعطيت لموسى،.. ومن ثم فالوثني لا يمكن أن يعاقبه اللّه، بذات العقوبة التى يعاقب بها اليهودى،.... ولأجل هذا قال المسيح لبيلاطس البنطى: " لذلك الذى أسلمنى إليك له خطية أعظم " (يو 19: 11) ومن هذا المنطلق يمكن أن نقول إن بشاعة خطية حنانيا هى أنه ارتكبها وهو عضو فى الكنيسة، وقد اشترك ولا شك مع المشتركين فى الترنيم للّه والصلوات والابتهالات، واستمع نهاراً وليلا إلى تعاليم الرسل، وما تركه المسيح لهم من مبادئ وقيماً ونوراً وأخلاقاً، وإذا كان دانتى قد وضع يهوذا الاسخريوطى فى الدرك الأعمق الذى يجاور الشيطان نفسه، فإن السر يرجع إلى أنه ارتكب جريمته ضد النور الكامل الذى وصل إليه، طوال علاقته بالسيد المسيح لمدة أكثر من ثلاث سنوات،... ومما لا شبهة فيه أن بشاعة الخطية قد تزايدت لما فيها من عنصر الإصرار والعمد، فهى ليست هجوماً شيطانياً مباغتاً، سقط فيه الرجل أو امرأته تحت عنصر المباغتة، كما حدث مع بطرس فى خطيته الكبيرة،... لقد اختمرت المؤامرة فى الظلام، وفكر الرجل مع امرأته، وانتهيا إلى قرار موحد مظلم آثم!!.. وأى كارثة أشد من أن يتفق الزوجان على خطية واحدة، وأن تتحول الخطية من أن تكون مجرد خطية تلم بفرد واحد فى بيت إلى خطية بيت بأكمله، يقبل الخطية ومعيشها وينتهجها وترتع فى جنباته،... فإذا عدنا إلى الخطية نفسها، نجد أنها أفرخت، وأضحت سلسلة من الخطايا. وميكروب الخطية يتكاثر ببشاعة وشناعة.. لقد ظهرت خطيته أول ما تكون فى الرياء والنفاق، فاكتست بأجمل مظهر مع ما تحمله فى الحقيقة من دافع خفى شرير،.... ولست أظن أن هناك شيئاً يكرهه اللّه قدر الخطية تتمسح بثوب الدين. ألم يقل قديماً على لسان إشعياء: " لست أطيق الإثم والاعتكاف " (إش 1: 13).. وشتان بين عطاء برنابا ووعطاء حنانيا، لقد قدم برنابا كل شئ، إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل، ولم يكن يقصد إعلاناً أو تفاخراً على الإطلاق،.... لكن حنانيا كان على العكس، فهو يود أن كل شخص فى مدينة أورشليم يعرف السخى الكريم الذى قدم ماله لأجل الآخرين، وبذل عن سخاء ما بعده سخاً، شأنه شأن الكثيرين الذين يبوقون بالبوق إعلاناً لسخائهم، أو يطلبون من الآخرين أن يبوقوا لهم فى المجتمع والصحف والمجلات وكافة وسائل الإعلام، لو استطاعوا إلى ذلك سبيلا،... أرسل أحدهم خمسة وثلاثين دولاراً إلى الكنيسة فى مشروع وطلب أن يعلن عن تبرعه ليكون قدوة للجميع،... وفى الوقت عينه اشترى آخر الأرغن للكنيسة بمبلغ ثلااثة آلاف دولار، وإلى جواره بطاقة صغيرة عليها: " من أسير إحسانات اللّه وفضله الكريم " دون أن يكشف عن اسمه، المعروف للّه وحده،... ولا شبهة فى أن عاطفة التفاخر كانت مصحوبة، كما يذكر الكسندر هوايت بعاطفة الحسد التى جعلت حنانيا لا يعرف النوم وهو يرى برنابا يقدم عطيته السخية لمجد اللّه!!.... وهو لا يطيق بتاتاً أن ينال برنابا مركزاً أو إكراماً أكثر منه،..... والحسد كما نعلم هو فخ من أقدم الفخاخ التى يستخدمها الشيطان فى شتى المجالات، وعلى وجه الخصوص المجال الدينى، وقد أمسك بقايين، عندما سقط وجهه، لأن اللّه رفض تقدمته، وقبل ذبيحة أخيه، وكأن الأرض لا يمكن أن تتسع لهما معاً، بوجهه الساقط، ووجه أخيه المرتفع،... وكان العامل الوحيد هو الحسد: " ليس كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه. ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة (1 يو3: 12)... والحسد كالسوس الذى ينخر فى العظام أو على حد قول الحكيم سليمان: " ونخر العظام الحسد " (أم 14: 30)، " ومن يقف قدام الحسد " (أم 27: 4) وقد أدرك بيلاطس عمق شر اليهود فى صلب المسيح: " لأنه علم أنهم أسلموه حسداً" (مت 27: 18)... وعلى هذا الأساس فإن حنانيا لا يمكن أن يكون أقل من برنابا فى نظر الكنيسة وأضأل وأصغر، وإذا كان الثمن حقلا يباع أو مالا يبذل، فلا مانع من سلوك هذا المظهر مهما يكلف من ثمن، والخفاء يستطيع أن يغطى ما يراد تغطيته، فإذا أضفنا إلى ذلك خطية الطمع، والطمع فى العادة هو محاولة الحصول على أغلى الأشياء بأقل ثمن،. فلا مانع عند حنانيا وسفيرة من الاشتراكية التى تعيش على حساب الكنيسة كلها، مع الاحتفاظ بالرأسمالية أو الشطر الأوفر منها فى الخفاء وليكن الرجل اشتراكياً فى الظاهر ورأسمالياً فى الخفاء، ولماذا يتعب ويكد ويجتهد وهو ضامن أن الكنيسة ستطعمه وتكسوه على وجه اشتراكى مثالى، وفى الوقت عينه له ميزة الرأسمالى المختفى،... وهو لا يمكن أن يتمم هذا إلا بلون من ألوان الغش، ولكنه لا يرى فى ذلك غشاً، بل هو لون من ألوان الذكاء الذى يقتضيه الموقف،... فليمسك بأوراقه كما يلعب المقامر، والذى لا يبالى بالغش إذا استطاع بالمهارة وخفة اليد أن يخدع اللاعب الذى يجلس فى مواجهته، وسيهنئ نفسه بالبراعة الفائقة، إذا لم يستطع هذا الآخر أن يكتشف غشه،... ومن ذا الذى يستطيع أن يكشف حنانيا وقد باع ملكه لشخص لا صلة له بالكنيسة البتة، ولا يمكن أن يتحدث عن حقيقة الثمن الذى دفعه فى سبيل هذا الملك، والأمر كله لا يمكن أن يكون معلوماً لإنسان قط، ماخلا الزوجة التى عرفت وأقرت ببراعة زوجها وقدرته ومهارته الفائقة فى الترتيب والتنظيم، و"التكتيك"... والمرأة سعيدة بزوجها الذى يملك هذه القدرة على التخطيط العظيم الهائل، والأمر سر بينهما لا يصل إليه ثالث،... فإذا أضفنا إلى هذا كله أن من يستسيغ الغش لا مانع عنده من الكذب، وما هو الكذب عند حنانيا، إذا كان لتغطية المهارة والبراعة فى التخطيط، وهل من حق بطرس أن يسأله، عما يعتقد أنه ملكه، وأنه حر فى أن يعطى الكل أو يعطى الجزء،... وهو لن يسبب ضرراً لأحد، إذا لم يقل الواقع، وقد تفتق ذهن الناس لذلك عن نوع من الكذب أطلقوا عليه اسم " الكذب الأبيض أو كذب الضرورة " أو ما أشبه من ألفاظ أو أوصاف زعموا أن الحقيقة لن تضار بها، وقد نسوا أن الكذب هو الخطية الموجهة ضد اللّه الذى هو الحق نفسه، وقد كانت خطية حنانيا أولا وقبل كل شئ خطية ضد روح اللّه: " لتكذب على الروح القدس " (أع 5: 3) وهنا نبلغ لب الحقيقة التى جعلت بطرس يصف الواقعة بشئ واحد لا غير، ألا وهو " الاختلاس "... لقد نسى حنانيا من أول الأمر أنه وما ملكت يداه ملك للّه جملة وتفصيلا، وأنه وهو يهودى كان يعلم ما قاله داود النبى وهو يقدم لبيت اللّه: " ولكن من أنا ومن هو شعبى حتى نستطيع أن ننتدب هكذا لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك " (1 أخ 29: 14).. وعندما باع الرجل ملكه تحول مركزه إلى مركز النذير، فهو إذا أخذ مما نذر، فهو مختلس لا أكثر أو أقل، واللّه يتعامل معه على هذا الأساس، ويحاسبه على هذا الوضع، وهو لا يستطيع أن يخدع أحداً إلا نفسه، فاللّه لا يمكن أن يخدع، وبطرس أيضاً، وقد كشف له اللّه الحقيقة، لم يخدع.... إنما حنانيا وحده الذى انجذب وانخدع من شهوته وإثمه، وهو أدنى إلى ذلك الفلاح الذى مرض ابنه مرضاً خطيراً فنذر إذا عوفى الولد أن يبيع حصانه ويضع ثمنه فى كنيسة اللّه، وشاء اللّه أن يشفى الصغير، وأراد الفلاح أن يوفى بنذره، والحصان عزيز فى عينيه، فماذا عساه يفعل!!... ذهب بالحصان إلى السوق وعرضه للبيع، وكان الثمن فى ذلك الوقت عشرين جنيهاً، ولكنه أخذ مع الحصان ديكاً،... وذهب ليعرض الحصان والديك معاً، وعندما سأله المشترى عن ثمن الحصان أجاب: ثمنه ريال فقط، وأسرع المشترى ليشترى الحصان فقال له الفلاح انى أبيع الحصان مع الديك!!... وما ثمن الديك!!؟ أجاب عشرون جنيهاً!!.. وقبل المشترى الصفقة وأخذ الحصان بعشرين قرشاً والديك بعشرين جنيهاً، وذهب الفلاح ليقدم عشرين قرشاً ثمن الحصان للكنيسة!!.. قد نقول هذه أضحوكة ولا شك،... ولكنها كانت الأضحوكة المرعبة التى وصل إليها حنانيا وهو يخادع الحقيقة فى مطلع التاريخ الكنسى وفى بدء الكنيسة الأولى فى أورشليم!!... 

حنانيا وعقاب اللّه القاسى

على أن السؤال الذى يمكن أن يثار بعد هذا كله: هل كان لابد من هذا العقاب السريع القاسى المباغت الذى أخذ حنانيا وزوجته معاً فى ظرف ثلاث ساعات،.. ولماذا سمح اللّه بهذه الشدة فى مطلع الكنيسة الأولى؟... لقد أراد اللّه أن يبين بعض الحقائق، ولعل أهمها،:  مركز المؤمن فى العهد الجديد ورسالته، وقد وصفها دكتور ثيودور آدمز وهو يتكلم عن علاقة المسيحى بسيده: " إنه يدعونى لأعمل معه فى ملكوته ولا يجعلنى أستريح لأى شئ حولى فى الحياة، مما لا يتفق مع مبادئه وروحه، وهو يقودنى إلى شركة مع الآخرين تتخطى حواجز الجنس والعقيدة أو الزمان والمكان فيعطينى فى كنيسته مكاناً للعبادة والتدريب، والشركة والخدمة، ومع كل قصورى يؤكد لى أنه يمكننى أن أكون نافعاً لخدمته وتأدية الرسالة التى دعا أتباعه ليقوموا بها فى العالم، وهو يساعدنى يوماً بعد يوم لأحيا فى المحبة والثقة والسلام الداخلى، وهو يؤكد أن لى حياة أبدية وراء القبر ويدعونى لأعيش للأبدية من الآن "... وقد كان من واجب حنانيا وقد أصبح عضواً فى الكنيسة أن يذكر هذا المركز العظيم المجيد ويتجاوب معه!... لكنه وقد هبط كثيراً عن ذلك كان لابد له أن ينال القصاص الذى وقع عليه!!.. كما أنه نسى أن البذل فى الكنيسة ومن أجلها ينبغى أن يكون بغير حدود، وبكل سخاء وكرم، ودون إحجام أو تردد،.... وصف أحدهم الكنيسة كما يتخيلها فقال: هذه هى كنيسة أحلامى!!.. الكنيسة المقتدرة على تأدية الواجب!! الكنيسة الحارة القلب!!.. المفتوحة الذهن!!.. ذات الروح الجسور!!.. الكنيسة التى تهتم!!.. والتى تشفى الحياة المريضة، والتى تعزى الشعب فى الشيبة، والتى تتحدى الأحداث والشباب، والى لا تعرف تفرقة لثقافة أو جنس... ليس فيها فواصل اجتماعية أو جغرافية.. الكنيسة التى تطلب وتدفع، تنظر إلى الأمام كما تنظر للخلف، كنيسة السيد، وكنيسة الشعب أيضاً - الكنيسة المرتفعة والكنيسة العريضة والكنيسة المنخفضة! مرتفعة كمبادئ المسيح، منخفضة كاتضاع البشر، كنيسة عاملة، كنيسة جذابة، كنيسة تفسر الحق بعبارات الحق، وتوحى الشجاعة لهذه الحياة والأمل للحياة الآتية، كنيسة شجاعة، كنيسة الناس الأبرار، كنيسة اللّه الحى،... ومثل هذه الكنيسة لا يجوز أن يتوانى المرؤ عن بذل كل تضحية وخدمة لأداء رسالتها.

كما أن الصورة التى ارتكب بها الخطية كانت على الأغلب عاملاً مشدداً للعقوبة والجزاء، لقد تساءل دكتور جويت فى واحدة من عظاته: ترى ماذا يكون الحال لو أن بطرس اختار طريقاً أخرى فى معاقبة حنانيا، فأتى به على حدة، وحدثه عن التجربة التى سقط فيها، وأن الجميع معرضون للتجربة، وأنه من الأحرى والأفضل أن يعترف بخطيته ويتوب عنها، وتساءل دكتور جويت عما تؤول إليه النتيجة وهل كان هناك من أمل فى توبة حنانيا فى عنصر المفاجأة والمباغتة التى واجهته بها التجربة،... لقد أخطأ حنانيا بعد الرؤية والتأمل والإصرار، وكما أقدم آدم وزوجته على الخطية داخل الجنة ارتكب حنانيا وسفيرة خطيتهما داخل الكنيسة فى مهدها الأول فى أورشليم!!..

ويجمل بنا أن لا ننسى - قبل وبعد كل شئ - أن الجزاء هنا كان يقصد به الردع، فكما فعل يشوع، فى خطية عخان بن كرمى، وكما فعل أليشع فى خطية جيحزى غلامه، هكذا فعل بطرس فى خطية حنانيا وسفيرة، إذ أن الثقب فى السفينة سيدمرها مهما كان صغيراً، والميكروب فى الجسم سيستشرى مهما كان بالغ الدقة، فإذا لم تقمع الخطية من اللحظة الأولى فإن خميرة صغيرة تخمر العجين كله، وابتداء القضاء ينبغى أن يكون من بيت اللّه، فإذا ظهرت الجريمة، وجاء الجزاء سريعاً، فإن الخوف سيقع على الجميع، وستفعل الرهبة فعلها مع النعمة، وإذا بالمخطئ يخاف، والمجرب يفزع، والتوبة فى السر والعلن تكون رائد الجميع!!..

على أن السؤال الذى قد يعن للكثيرين بعد ذلك: ما هو مصير حنانيا وزوجته!!؟ وهل هلكا!!؟ وقد اختلفت الإجابة على ذلك، فإن هناك من يصرا على هلاكهما الأبدى، باعتبار أن الصورة الأخيره لكليهما هى أنهما خاطئان ماتا فى خطيتهما دون توبة عنها، وأى خاطئ لا يتوب، لا شبهة فى مصيره على الإطلاق سواء أكان من داخل الكنيسة أو من خارجها على أن هناك الرأى الآخر: إن الحكم بالتوبة ليس فى قدرة أحد أن يحكم فيه على الإطلاق، ويذهب أوغسطينوس فى هذه القضية ويشاطره كثيرون كجرمى تايلور وغيره من الدارسين للحكمة الإلهية، إلى أنه كثيراً ما يكون الموت الفجائى للتائب بمثابة: " أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكى تخلص الروح فى يوم الرب يسوع " (1 كو 5: 5)، " لأن الذى يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب. من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا، ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكى لا نُدان مع العالم " (1 كو 11: 29 - 32)... وعلى أية حال فإن أمرهما بين يدى اللّه وحكمه الأبدى،.... لكن قصة الرجل وامرأته ستبقى على الدوام القصة التى تعلم الخطاة والمؤمنين هذه الحقيقة الخالدة: " مخيف هو الوقوع فى يدى الله الحى... لأن إلهنا نار آكلة "!!... (عب 10: 31، 12: 29)

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بدعة كيرينثوس

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

أسئلة عن تلاميذ السيد المسيح