زيارة القبور عن كتاب الارشدياكون حبيب جرجس

كتاب عزاء المؤمنين - القديس الأرشيذياكون حبيب جرجس


 

«إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى الْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ»" (إنجيل يوحنا 11: 31).

من عوائد الأمم قديمًا وحديثًا إكرام الأحباء بعد الموت. وكان الشرقيون القدماء يبدون إكرامًا مقدسًا لموتاهم. ويقدمون وقارًا واحترامًا لقبورهم. واعتبروا إهمال أمور الدفن من أكبر المصائب التي يكرهونها لأعزائهم ويتمنوها لأعدائهم. ولا يزال جميع البشر حتى الآن يبدون الإكرام للمدافن التي تضم رفات أعزائهم. ويعتنون كثيرا ببنائها وتزيينها لأنهم يعتبرونها المكان الذي يضم عظامهم بعد انتهاء الحياة، وكل ذلك دليل على محبة البشر لأعزائهم وعدم نسيانهم بعد الموت. لان المحبة لا تقف عند حد الموت بل لا يزال كل منا يذكر من كان يحبه وفارقه في هذه الدنيا، وفي الحقيقة أن المدافن التي رقد فيها أحباؤنا لا تزال محبوبة لدينا. وكلما وقفنا أمامها تذكرنا عشرة وصداقة الذين عاشوا معنا وأخيرا أصبحوا سكتن تلك اللحود. والذهاب إلى القبورأحيانا لذكرى أحبائنا لا يعد من الأمور المستهجنة بل بالعكس فإننا بتلك الزيارة يمكننا أن نستفيد غير ذكر أعزائنا أمورا كثيرة نذكر منها:

أولا - نتعلم احتقار أباطيل العالم. وزوال كل مجد يخصه. حيث نرى هناك أن كل مجد دنيوي وكل مرتبة عالمية. وكل شهوة وكل لذة. وكل آمال الإنسان التي يؤملها في الدنيا. قد انتهت في ذلك القبر. وأن ذلك الإنسان الذي كان يتكلم بالأمس قد أصبح جثة هامدة أعدت طعاما للدود قال أحد الحكماء وهو يرثى الملك اسكندر الكبير "ها هوذا الذي كان بالأمس يطأ الأرض بقدميه فالآن قد وطأته الأرض تحتها. أمس لم تكن الأرض بجملتها كافية لمرغوباته ولان تكفيه فقط سبعة أشبار منهل ليدفن فيها بالأمس كان يقود على وجهالأرض عددًا عظيمًا من الجيوش والعساكر. والآن أنفار قلائل من الحمالين تحمله إلى قلب الأرض" ففي القبور نقف بخشوع وورع ونرى نهاية كل شيء في الدنيا ومن لا يتخشَّع عندما يتأمل أن جسده سيعود يوما مل مأكلا للدود والحشرات فبحق دعاالقديس يوحنا ذهبي الفم القبور"مدرسة التواضع". فهي كذلك لأننا نتعلم منها الاتضاعوالحكمة وزوال بطلان كل شيء دنيوي.

St-Takla.org Image: From Gethsemane to Olivet - The Holy women at the tomb of Jesus Christ, by William Adolphe Bouguereau

صورة في موقع الأنبا تكلا: من جثسيمانى الى جبل الزيتون - النساء القديسات عند قبر يسوع المسيح، رسم الفنان وليام أدولف بورجورو

ثانيا - نتعلم قيمة الزمن الذي نحن فيه لنصرفه فيما يرضى الله إذ القبر الذي نحن ذاهبون إليه والأبدية التي سنسير لا يمكن لأحد أن يعمل فيها شيئا وليس هناك إرشاد ولا تنبيهات ولا خطب ولا عظات بل ما دمنا في الحياة يجب أن نذخر ما ينفعنا وينير لنا تلك الطريق. قال السيد ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل (يو 9: 4) فلنعرف أننا دخلنا إلى العالم عراة. ونذهب إلى القبرعراة من كل شيء، ولا يستطيع أحد أن يأخذ معه شيئا، وحينئذ لا ينفع المال ولا الجاه ولا المراتب الرفيعة. شيء واحد يبقى معنا هو ما عملنا من التقى والخير.

ثالثا - نتذكر أننا تراب والى التراب نعود وأننا مائتون ولابد أن نفارق العالم يومًا ما، فان المغرور المغرم بشهوات العالم وطالب المجد الباطل وباقي المخدوعين بحب الدنيا عندما يتأملون نهايتهم تقف أطماعهم ولو قليلا وربما استفادوا من ذكرالموت ما ينبههم عن غفلتهم ويفيد حياتهم الروحية. وفي ذكر الموت فائدة كبرى وهو أهل لأن يكون موضوع تأمل الإنسان مدة الحياة. فان من يذكر نهايته تحسن بدايته وتستقيم حياته. وقد كان الفلاسفة الوثنين والأتقياء في كل زمان يهتفون بذكر الموت. قال أبيكتيتوس الفيلسوف Epictetus: أديموا التفكر في الموت لأن هذا الفكر يمنعكم أن تفتكروا أبد فكرا دنيئا أو تشتهوا شيئا بإفراط الرغبة والشوق. وقال أفلاطون: "انه بقدر ما يتعمق الإنسان في التثبت بفكر الموت ويتوغل في التأمل فيه بقدر ذلك تتسع حكمته" وروى عن الملك فيلبسأبى الإسكندر الكبير: أنه أمر أحد خدامه وأن يكرر له في كل صباح ثلاث مرات هذه الكلمات "اذكر يا فيلبس أنك بشر وأنك بالموت ستترك كل شيء" وجاء عن الملك مكسيميليانوس الأول أنه صنع نعشا لنفس قبل موته بأربع سنين وحيثما توجه كان ينقله معه ليكون مذكرًا له بالموت، كما ذكرنا أيضاً هنا فيموقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وكثير من ملوك الشرق كان لهم من جملة أعلام وعزتهم الملوكية كتاب من ذهب يحملونه باليد اليسرى القريبة من القلب اسم "البر" وهذا الكتابمملوء ترابا وغبارا وكانوا يشيرون به إلى أن الإنسان مائت. وكان من عادة الأحباش عند تتويج أحد ملوكهم أنهم يحملون أمامه وعاء مملوء ترابا وجمجمة ميت. وقد وجد على مكتبة أحد الفضلاء جمجمة كتب عليها على لسان الميت هذه الكلمات يخاطب بها كل من يقرأها: "كما أنت الآن قد كنت أنا أيضا" ومن يتأمل في جمجمة وعظام الإنسان دون أن يسفك تشامخه وينحط ترفعه.

ما أكثر الفوائد التي نربحها بمثلهذه التذكارات والتأملات، فالذهاب إلى القبور إذا ليس أمر جائز فقط بل هو مناسب ومفيد. نعم إن هناك تستعر نار أحزاننا في ضلوعنا وتقطر أجفاننابالدموع عندما نذكر الذين كنا نحبهم، ولكن عندما نتأمل أن أولئك الذين وثقنا بهم وتعلقت قلوبنا بمحبتهم ورأينا أن تلك الثقة عادت بالخيبة وان لا شيء إلا ويغيره الزمان، وان أولئك الراقدين قد هدأوا من أتعاب الدنيا، وأننا لا نزال في معترك الحياة نقاسى آلامها، وأن المستقبل في ظلمات الريب، ولا نعلم ما يخبئه الزمان. حينئذ نغبط الذين رقدوا بسلام. وان بكينا هناك فلا نخطئ وإنما الخطأ في البكاء بلا رجاء. لأنالدموع إذا مزجت بروح الثقة والتسليم أعقبتها التعزية والله تعالى يحصى عبرات شعبه ويمسحها من عيونهم.

فإذا ذهبنا إلى القبور وبكينا هناك أحباءنا وذكرنا محبتهم فلا يجب أن ننسى التأمل في آخرتنا. بل يحسن جدًا أن نجعل تلك الزيارة وسيلة لاجتناء الفوائد الروحية لنفوسنا حيث نسمع من تلك الرموز العظات البليغة. عظات بدون ضجة أصوات ولا دوى كلام. منابرهاالقبور وخطباؤها الأموات وعاظ بلغاء لا يهابون كبيرًا ولا يخشون غنيًا ولا وجيهًا. حيث نسمع أصواتًا من تلك الجماجم الجامدة والعظام البالية تنادى باطل الأباطيل الكل باطل ولو أمكن لعظامهم أن تكلمنا لقالت لنا: كما أنتم الآن فقد كنا نحن قبلا مثلكم. كما أنتم أحياء تنظرون وتسمعون وتتكلمون، تذهبون وتعودون، تقفون وتمشون، تأكلون وتشربون. كنا نحن أيضا كذلك وأصبحنا كما ترون. لقد صمتت ألسنتنا وكلت عيوننا وهمدت التي أنتم واقفون عليها وتمشون فوقها إلا من رفات أجسادنا. فقفوا بورع لا اختيالًا على رفات العباد. لا تغلقوا قلبكم على شيء من أمور الدنيا الغرور فسوف يلحقكم ما لحقنا، وسف تصيرون كما صرنا. وسيكون مالكم كمالنا. من له أذنان للسمع فليسمع.

هنا يتساوى الجميع، الصغير كالكبير، الغنى كالفقير، السيد كالعبد العظيم كالحقير، المتكبر كالمزدرى به. هنا تبطل الميزات التي مَيَّزَت البشر.. هنا يبطل انقسام البشر إلى أسياد وعبيد، كبار وصغار، هنا ينتهي مجد الإنسان. هنا تبطل القوة والعظمة الدنيوية. هنا تزول نضارة الشباب وينتهي حد الشيخوخة. هنا تفنى اللذات وتنقضي المسرات، وتقف حدود الرغائب والشهوات. هنا نهاية كل شيء. الرتب والمناصب، الصيت والمجد والسؤدد. فقولوا للمفتخرين لا تفتخروا، وللأشرار لا ترفعوا قرنا ولا تتكلموا بعنق متصلب مز (75: 4) قولوا للمتكبر هنا أن كبرياءه تسقط. ولمن لم يشبع من الشهوات هنا سيرى خداع غرور، أن صرف حياته في الآثام هنا سيعرف أنه خسر كل شيء باطلا. ولمن صرف حياته في طاعة الله وخدمة بنى الإنسان أن أتعابه ستنتهي هنا ثم تبدأ راحته هناك وتتفتح أمامه أبواب السعادة ويتمتع بالسلام، ويشرق له فجر النهار الأبدي وينال شبع سرور.

لقد سلكنا هنا مطمئنين هادئين. أجسادنا هنا، أرواحنا في السماءوانتهى زمن جهادنا، وما عدنا نسع أصوات الشرور التي تزعج بنى آدم وارتحنا من الآلام التي تُعَذِّب البشر كل يوم، فلا ترى الشقاوات والتعاسات المحيطة بالإنسان، ولا نشاهد زحام الحياة وتنازع البقاء، وقتالات البشر وحروبهم على أمور فانية، وما عُدنا نرى صور الرذائل التي كنا نراها من الوحوش الآدمية والحيوانات البشرية والذئاب المفترسة. لقد خلصنا من مشاهدة مناظر الدناءة والخسة السائدة في الكون. لأن هنا يبطل الظلم ويزول الظالم ويرتاح المظلوم، وتنتهي الهموم والغموم، ومن شاء أن يتعلم التواضع ويدرس الفضائلويقضى حياة طيبة ونهاية سعيدة. فليتعلم أول درس منا هنا. ومن كان غافلا لاهيا ساهيا فليفطن إلى النهاية وليتعلم أن هنا آخرة كل حي. فطوبى لمن يقول "لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ" (سفر العدد 23: 10)


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بدعة كيرينثوس

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

أسئلة عن تلاميذ السيد المسيح